الجمعة، 26 يوليو 2024



الاخوان المسلمون
في مذكرات ايمن شربجي
قائد الطليعة المقاتلة في دمشق

المؤلف هو ايمن احمد شربجي (1955- 1988) دمشقي من حي الميدان، القائد العام للطليعة المقاتلة  بين عامي 1982-1988م انتسب للطليعة المقاتلة على يدي مروان حديد في دمشق عام 1974وتلقى تدريباته العسكرية في الجبال الساحلية في معسكرات الطليعة مع نخبة من الجماعات الأولى التي ضمها مروان حديد بقيادة عبد الستار الزعيم وموفق عياش... اتصف ايمن شربجي بصفات عديدة اهلته لقيادة الطليعة في دمشق فاثبت كفاءة منقطعة النظير اكسبته عند النظام لقب اليد التي لا تخطئ ووضع حافظ الأسد مكافأة 100 الف ليرة لمن يساعد في القبض عليه، وقال مرة لعلماء دمشق لو سلمتموني أبا عمر (ايمن شربجي) لاطلقت لكم مئات المساجين... كانت معظم العمليات العسكرية النوعية التي قامت بها الطليعة في الثمانينات: محاولة اغتيال حافظ الأسد، الهجوم على وزارة الاعلام، الهجوم على مبنى رئاسة الوزراء، تفجير الازبكية، اغتيال الشخصيات البارزة في النظام... كانت من تخطيط وتنفيذ الطليعة المقاتلة بمشاركة او بقيادة ايمن شربجي. والطليعة المقاتلة في دمشق التي أنجزت هذه العمليات واكثر وارقت النظام وجعلته في حالة استنفار  لم يتجاوز عدد افرادها في احسن الأحوال العشرات.

كتب ايمن شربجي هذا الكتاب بعد سنة 1982م وغالبا ابتدأ به عام 1986 ولم يتح له اكماله لانه استشهد عام 1988 ولم يكمل ما أراده من تدوين احداث حماة. وقد جاءت الإشارة الى كتابه هذا وسبب كتابته في رسالة له لقادة الاخوان في الخارج عام 1986 حيث قال:  "ان ما يجري عندكم من مهاترات ونزاعات على المناصب قد اساء الى دماء الشهداء والمجاهدين وشوه تاريخهم، ولذلك وجدت من واجبي كتابة تاريخ المجاهدين في دمشق منذ عام 1974 وحتى عام 1982م... حتى يطلع المسلمون على الحقائق ويستفيدوا من التجربة الجهادية في سوريا التي كادت ان تضيع وتشوه ونحن ما زلنا على قيد الحياة"[1] وقد عنون الكتاب "تاريخ العمل المسلح في مدينة دمشق" ولم يظهر هذا العمل الى النور الا مع بدايات الثورة السورية بعد عام 2011 حيث صدر ابتداء في نسخة رقمية بعنوان "مذكرات الطليعة المقاتلة" ثم أعيد نشره عام 2017م في لندن بنسخة ورقية اعتني باخراجها من جهة العناوين والفهارس والشروح بعنوان "على ثرى دمشق"  وكان الهدف من نشرها تقديم مادة ذات فائدة يستفيد منها العاملون في الثورة السورية المعاصرة لكن كما يقول الناشر: "ان بعض من وصلتهم التجربة عمل بشكل مغاير لما تقتضيه المصلحة خلال الثورة السورية الحالية"

كان ايمن الشربجي عضوا في الطليعة منذ تاسيسها كاحد كوادرها في تنظيم دمشق ثم اصبح قائدا لتنظيم دمشق والقائد العام للطليعة منذ عام 1982م حتى استشهاده عام 1988م لذا كان في موقع صنع القرار والاطلاع المباشر على كل الأمور العسكرية وبعض الأمور السياسية التي تخص الطليعة وقيادات الاخوان المسلمين حتى عام 1988مما يجعل من كتابه الى جانب ما تركه قائد الطليعة في حلب عدنان عقلة من تسجيلات صوتية مصدرا أساسيا في  دراسة هذه المرحلة ومن أراد ان يفهم طبيعة العلاقة بكل وضوع بين الطليعة والاخوان فلا غنى له عن مطالعة شهادة شربجي وعدنان عقلة فهما تكملان بعضهما.

ومما يجب ذكره أيضا: ان ايمن شربجي هو قائد الطليعة في دمشق ثم القائد العام للطليعة بعد عام 1982 بعد ان زالت وتفككت الطليعة في كل المدن السورية وبقيت صامدة في دمشق حتى التسعينيات وهو ما يبدد الصورة النمطية عن ان سكان دمشق كانوا خارج النزاع بين الطليعة وحافظ الأسد كما كان الاخوان يروجون في الخارج عندما كانوا يصورون العمل العسكري في حماة وحلب وويتجاهلون دمشق وهو ما اعتبره ايمن شربجي انه ناتج عن عصبية مناطقية رعاها الاخوان وروجوا لها[2] ويثبت ان دمشق كانت في طليعة من قاتل النظام منذ البدايات الأولى لتشكيل الطليعة على يد مروان حديد في دمشق وبقيت صامدة حتى النهاية حتى عام 1997 عندما اطلق سراح الفوج الأخير من الطليعة من سجون النظام وخاطبهم هشام بختيار بعد سيل من الشتائم: "الان ارتحنا وارتاحوا"

مروان حديد وتاسيس الطليعة المقاتلة:

خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر بين عامي 1958-1961 نشأ تنظيم سري عسكري طائفي من ضباط بعثيين  من اتباع الأقليات الدينية (العلويين، الاسماعيليين، الدروز) بشكل خاص دعي باسم اللجنة العسكرية، نجح بعد فك الوحدة مع مصر في احداث انقلاب عسكري عام 1963 بقيادة واجهة من السنة اسمه زياد الحريري انتهى امره بعد انجاز مهمة اللجنة العسكرية التي تقاسم افرادها بعد الانقلاب المناصب العسكرية والسياسية الهامة في سوريا بقيادة شكلية سنية مثلها امين الحافظ الحلبي... وخلال فترة سنة من سيطرة البعث الطائفي على شؤون الحياة العامة في سوريا ظهرت التوجهات الطائفية لصانعي الانقلاب في مجالات الحياة العامة مما انذر بحالة من الغليان الشعبي في كل سوريا ظهر بشكل جلي في مدينة حماة على شكل صدامات شعبية بين اهل حماة وذيول البعث تطورت سريعا وتحولت الى اغلاق واضراب عام في حماة  دفع محافظ حماة عبد الحليم خدام لطلب تدخل الجيش لفض اضراب حماة فحدث عام 1964 ما عرف باحداث مسجد السلطان حيث قامت قوة عسكرية بقيادة الدرزي حمد عبيد والعلوي عزت جديد بتطويق المسجد الذي اعتصم فيه جماعة من شبان حماة بقيادة شاب سيترك بصماته وذكراه في تاريخ العمل العسكري ضد نظام البعث حتى اليوم وهو مروان حديد. لم يكن هناك تكافؤ بين المهاجمين والمعتصمين في المسجد فاقتحم حمد عبيد المسجد بالدبابات واعتقل بضعة شبان ممن بقي حيا وكان منهم مروان حديد الذي اقتيد الى محاكمة عسكرية صورية ترأسها مصطفى طلاس الذي أوقع حكم الإعدام بحق مروان حديد. ولم ينفذ الحكم بموجب عفو من رئيس الجمهورية امين الحافظ  أصدره مرغما بفعل الضغط الشعبي وتدخل من شيخ حماة وقتها محمد الحامد.

اثبتت احداث مسجد السلطان لمروان حديد ان النظام القائم لا يفهم الا لغة الحديد والنار فاستغل الفترة بعد حرب 1967 في التدريب والاعداد والتحريض حتى كان العام 1970 وهو العام الذي انقلب فيه حافظ الأسد على رفاقه في حركته التصحيحية واستلم الحكم بعد تعديل في الدستور وإلغاء المادة التي تنص ان الإسلام هو دين الدولة والاكتفاء بان يكون دين رئيس الدولة فقط هو الإسلام في مسرحية صورية عمد فيها كفتارو حافظ الأسد مسلما خلاف ما تعتقده الغالبية من السوريين من ان حافظ الأسد نصيري غير مسلم وترافق هذا بمزيد من مصادرة الحريات والقمع والتنكيل والملاحقة لكل معارض وزاد حافظ الأسد من تجنيد الفرق العسكرية على أساس طائفي علوي من خلال ما عرف باسم سرايا الدفاع...  وعلى هذه الخلفية من الأوضاع  حاولت قوة  بقيادة رفعت الأسد  عام 1970اعتقال مروان حديد في حماة لكنه نجح في الإفلات منهم واستقر به المطاف بعد حين في دمشق متخفيا. وخلال الأربع سنوات التالية ومن خلال جهد مكثف تحت الملاحقة والتنقل المستمر نجح مروان حديد في وضع الأسس النظرية والمادية لحركة المقاومة للنظام البعثي العلوي والذي عرف ابتداء باسم "الطليعة المقاتلة لجند الله"

موقف الاخوان من الطليعة

عندما لجأ مروان حديد لتاسيس الطليعة المقاتلة كان قد بذل جهودا كثيرة لاقناع قادة الاخوان في سوريا للجوء الى العمل العسكري وكانت خطته هي ان تقوم قيادات الاخوان بتعبئة كوادرها في تنظيمات عسكرية سرية تستقطب الشعب ثم وبالتعاون مع القيادات العسكرية السنية في الجيش يتم احداث انقلاب عسكري مدعوم بثورة شعبية تطيح بنظام الأسد لكن أولئك عارضوا بحجة ان الوقت لم يأن بعد للعمل العسكري، وانه متى حان الوقت فلن يتوانوا عن حمل السلاح[3]، ويذكر ايمن شربجي ان الاخوان لم يهيئوا اصلا أي نوع من التنظيم لمواجهة النظام وكل تحركاتهم كانت ذات طابع سلبي كلامي بلا فعل وافعالهم مجرد ردود أفعال كلامية، ويقول:  "وانتهت عند هذا الحد ولم تقدم جهودا مؤثرة تحد او تقلل من إرهاب السلطة الطائفية"[4] عدا عن انهم كانوا في صراع بيني بين جناحين: واحد بقيادة عدنان سعد الدين وسعيد حوى (تنظيم حلب) والثاني بقيادة عصام العطار  (تنظيم دمشق) وهو ما راه مروان حديد ناتج عن بعد قيادات الاخوان عن الجهاد في سبيل الله. لذا عندما يأس مروان حديد من اقناع قادة الاخوان الذين كانوا مازالوا موجودين داخل سوريا بضرورة العمل المسلح وامام احجامهم شرع عندما وصل الى دمشق 1970م بوضع الأسس التظيمية والفكرية للعمل المسلح الهادف الى اسقاط النظام وقامت فكرته عل اربعة أسس عملية هي جذب الأنصار وتثقيفهم، ثم تنظيمهم، ثم تدريبهم، وصولا الى مرحلة الصدام المباشر مع النظام. ولن يحدث هذا الصدام حتى يحدث اليأس من ضم اتباع جدد. وبعد الانتهاء من هذه المرحلة تقرر الطليعة طريقة العمل العسكري ضد النظام: هل هي عمل عسكري خاطف، او حرب عصابات طويلة الأمد. ولم يتح لمروان حديد ان يرى نتيجة عمله اذ القي القبض عليه عام 1974 نتيجة وشاية من احد المترددين عليه (محمد جيرو من اللاذقية) وبعد معركة استمرت قرابة 10 ساعات في حي العدوي بدمشق  اعتقل مروان حديد وتمت تصفيته لاحقا عام 1975 في احدى المستشفيات. لكن ما زرعه مروان لم يمت بموته فقد تابع رفاقه ما بدأه فتتابع على قيادة التنظيم العام بعد مروان حديد بين عامي 1974-1990م: عبد الستار الزعيم، ثم هشام جنباز ثم تميم الشققي ثم عمر جواد ثم مسعف بارودي ثم ايمن شربجي ثم عاطف قهوجي.  وهؤلاء مع الكوادر المنتشرة في مدن حماة وحلب وحمص ودمشق هم من صنع حركة المقاومة المسلحة ضد نظام حافظ الأسد منذ أواسط السبعينيات وطوال الثمانينيات ورغم كثافة العمليات العسكرية ونوعيتها فلم تتجاوز اعدادهم أحيانا العشرات في كل مدينة

خلال مراحل عمل الطليعة المقاتلة منذ تاسيسها وحتى نهاية اعمالها كانت تنظيما مستقلا بذاته ولم تكن في يوم من الأيام على علاقة تنظيمية بالاخوان المسلمين بل اكد قادتها في اكثر من مناسبة على ان لا علاقة للطليعة بالاخوان وان حدث أي تواصل بين قادة الطليعة والاخوان في الخارج فهو من باب التعاون لا من باب الموالاة والتبعية وهي نقطة ستكون محور تنازع بين الطليعة والاخوان كادت ان تودي بالطليعة في دمشق خاصة سنة 1980م وربما هذه النقطة ستكون هي من فكك الطليعة في كل سوريا عدا دمشق عندما يأس الاخوان من ضم الطليعة الى قيادتهم في الخارج فقرروا القضاء عليها كما سيظهر فيما سياتي

كان موقف الاخوان من مروان حديد كما وصفه الشربجي: "اتهمتوه بالتهور والتسرع والتسبب في ضرب الجماعة الإسلامية، وعندما انطلقنا بعد استشهاده كانت مواقفكم سلبية...اما الان وقفتم موقف المتفرج ولم تقدموا واحد بالمائة بل اصبحنا نحن القاعدين عن الجهاد وانتم المجاهدون..."[5]

ورغم موقفهم المعادي للعمل العسكري عموما فانهم استثمروا فيه إعلاميا وماديا لصالحهم، فشرعوا ابتداء من عام 1979 وهو عام انطلاق الاعمال العسكرية الاولى للطليعة في حلب ودمشق قبل ان تعلن الطليعة عن نفسها إعلاميا، شرعت قيادات الاخوان في الخارج بتبني الاعمال العسكرية في الداخل ونسبتها لنفسها بل راح الاخوان يروجون انهم هم قادة العمل المسلح في الداخل وقد ذكر عدنان عقلة هذه الحيثيات صراحة مدعومة بالاسماء والوقائع بينما اكتفى ايمن شربجي بتلميح بسيط: وانتشرت انباء في السجون ان جماعة الاخوان المسلمين المختلفة قد اتحدت وهي من تقوم بالعمليات العسكرية[6]... وصارت اذاعتهم تنشر انباء العمليات العسكرية بنكهة اخوانية ذات تحزب مناطقي وغالبا ما كان يتم تجاهل اخبار دمشق مع ان اهم العمليات العسكرية حدثت في دمشق وغالبا مرجع ذلك الى علاقات العداء بين تنظيم حلب (البيانوني-سعد الدين-حوى) وتنظيم دمشق (العطار) ففرقوا في الشهداء بين اتباع تنظيمهم وبين اتباع مروان حديد وحصروا العمل العسكري بحلب وحماة وتجاهلوا دمشق، وقد ارسل لهم ايمن شربجي: "ان العصبية البغيضة تظهر في كل تصرفاتكم، ومن يسمع اذاعتكم تتكون لديه فكرة ان الثورة والعمل المسلح لم تكن الا في حماة وحلب وكان دمشق لم يحدث فيها شيء... مع العلم ان عمليات دمشق هي التي أعطت للعمل هيبته في الداخل والخارج"[7]

 ولم يكتفوا بهذا فقط استثمر قادة الاخوان وكوادرها في الخارج الوهج الإعلامي الذي حققه العمل العسكري داخل سوريا وخارجها فراحوا يجمعون التبرعات والمساعدات باسم العمل العسكري في الداخل، وفي واقع الامر لم يصل الطليعة شيئا من هذه الأموال، والى هذا أشار شربجي في احدى رسائله لهم: "انكم تقومون بجمع الأموال للمجاهدين فهل أصبحت هذه الأموال ملكا لكم؟ ولو انكم اعلنتم ان لا علاقة لكم بالمجاهدين فهل سيصلكم من الناس دينار واحد؟! ان كل ما حققتموه من امجاد ومكاسب على دماء شهدائنا... ولتدعيم مراكزكم في الخارج، ولعمري ماذا افاد المجاهدون ذلك"[8]

محاولات الاخوان الاستيلاء على الطليعة او تحييدها:


x

 

 

في عام 1980 اشاع الاخون من اتباع عصام العطار ان لهم تنظيما عسكريا وعلى وشك التحرك ودخلوا في عملية تنسيق مع الطليعة في دمشق تبين كما يفول الشربجي انه كلام لا أساس له من الصحة فعندما ترقب الناس قيام عمليات في يوم 8 اذار كما كان يشاع توقفت الطليعة ولم تنفذ شيئا فبان وقتها ان لا احد يملك تنظيما عسكريا[9]

الاخوان المسلمون وحافظ الأسد:

في نهاية السبعينات ومع تصاعد وتيرة العمل المسلح للطليعة دخل الاخوان في مفاوضات مع نظام الأسد عرفت باسم مفاوضات يكن-الأسد نسبة لامين يكن مراقب عام الجماعة حتى عام 1975، في الوقت الذي كانت قياداتهم في الخارج تسعى للسيطرة على الطليعة وتحويلها الى تابع لها، ومعلوم ظاهريا ان هذه المفاوضات فشلت كما فشلت محاولة السيطرة على الطليعة. ونلاحظ فرقا في طريق سرد العلاقات بين الأسد والاخوان بين عدنان عقلة وايمن شربجي. فعدنان عقلة يتهمهم صراحة بالعمالة  بالاسماء والوقائع، فينقل عن عدنان سعد الدين قوله: "ان اتصالاتنا لم تنقطع يوما مع النظام" ويقول عقلة نقلا عن حسن هويدي: ان عبد الله الطنطاوي هو من سرب للمخابرات السورية وقائع احتماع لجنة الوفاق وكتب في رسالة للاسد: هناك تيار متعصب طائفي (الطليعة) نحاول تطويقه وصولا للمصالحة الوطنية بضمانة السيد الرئيس حافظ الأسد.

اما ايمن شربجي فيستعمل صيغ المواربة وعدم الاتهام المباشر فيؤكد على وجود المفاوضات بين الاخوان والأسد وكان من نتائجها  عام 1980 قيام النقابات بامر من قيادات الاخوان المسلمين او من ذاتها كما يقول شربجي بفتح حوار مع السلطة التي أبدت تجاوبها الظاهر وانها تريد الديمقراطية واطلاق الحريات وقام بالفعل باطلاق بعض السجناء حتى اذا انكشف له موقف النقابات والقائمون عليها اعتقلهم واودعهم السجون[10]

ويقول شربجي: "لقد فاوضتم السلطات السورية مدة سنتين ونصف دون ان نعلم شيء عن هذه المفاوضات، ثم سمعنا فشل المفاوضات وعودة وفد النظام مهزوما امام جحافل المفاوضين، فهل كانت المفاوضات حول إعادة الحياة الى عشرات الالاف من شهداء حماة، ام كانت حول اسقاط الاجنة من بطون الاف المسلمات اللواتي اغتصبهن علوج الكفر النصيري؟"[11] " ذكرتم في بيانكم انكم اعددتم العدة لجولة نهائية مع النظام، وهل هذه الجولة هي وضع عبوة ناسفة مقابل 10 الاف ليرة؟ فمتى تراجعون أنفسكم وتحاسبونها بصدق مع الله وتتركون الهذرمة الإعلامية التي لا تقتل ذبابة"[12] وفي الواقع فان الاخوان دخلوا مفاوضات مع الأسد اكثر من مرة: عام 1980. وعام 1982 بعد مذبحة حماة، وعام 1984 بعد صراع الاخوين حافظ-رفعت...

ومن بين كل قضايا التنسيق بين الأسد والاخوان التي اتهموا فيها فان قضية كشف قواعد الطليعة في حماة عام 1982 قبيل مذبحة حماة وكشف تنظيم الضباط الاحرار التي راح فيها 400 ضابط سني أشار فيها عدنان عقلة وعمر جواد قائد طليعة حماة الى تسريب حدث من الخارج للمخابرات السورية وكان هناك سؤالا طرحه عدنان عقلة على عمر جواد: "أتقدرون ان يكون السبب وراء هذه الامور تخريب خارجي؟ كان جواب عمر: نحن لا نجزم ولكن كل ما بايدينا يؤكد هذا".وقد حدث الايقاع بالضباط بعد لقاء جمع احد هؤلاء الضباط بقيادات الاخوان حسن هويدي وعدنان سعد الدين وفي هذا اللقاء اخبر مندوب الضباط ان تنظيم الضباط سيقوم بانقلاب عسكري فان لم يكن لديكم إمكانات فسنتحرك بالتنسيق مع الطليعة. وكانت ساعة الصفر يوم 28 /1 /1982. لكن ما حدث انه تم الايقاع بالجميع يوم 8 / 1 .  من خلال رسالة ارسلها علي صدر الدين البيانوني الى درعا ضمنها اسم احد الضباط في التنظيم وتم الايقاع بالساعي وانفضح امر الضباط ثم امر التنظيم بحسب رواية عدنان عقلة اما ايمن شربجي فيرى ان الايقاع بتنظيم الضباط في الجيش جاء بسبب اعترافات نبيل حبش وهو من طليعة دمشق هرب من دمشق دون اعلام القيادة والتجأ الى الاخوان في الخارج الذين احتفوا به ورفعوه الى اعلا المراتب واستخدموه كمراسل لهم حيث القي القبض عليه في قبرص وسلم الى سوريا فاعترف على تنظيم الضباط الذي اعدم منه 400 ضابط سني  اما عدنان عقلة فيقول: ان ما حدث كان مخططا له لذبح كل شيء على الساحة

ولنا تعقيب هنا: هل تم التغرير بالاخوان واقناعهم بانه اذا ما تم التخلص من الطليعة سيحظون بمكاسب ما فساعدوا وساهموا في تفكيك الطليعة وتنظيم الضباط الاحرار؟ وهي نفس الحالة عندما تم اقناع الفصائل في الثورة السورية بانه اذا ما تم القضاء على داعش فسيرحل الأسد فوجهوا بنادقهم لقتال داعش فسقطوا جميعا وبقي الأسد حتى الان

 

 

وفي عام 1980نفذت جماعة الاخوان المسلمين أولى عملياتهم ضد نظام الأسد وكانت العملية عبارة عن توزيع منشورات تهاجم نظام الأسد بعد ان اصدر القانون 49 القاضي بإعدام من ينتسب لجماعة الاخوان[13]

بعد مجزرة حماة عام 1982 تحول الاخوان الى نهج المصالحة مع النظام

لقد كان جليا من مفاوضات الاخوان بعد عام 1984 مع نظام الأسد ان الأخير  أراد منها تخفيف الازمة الداخلية التي يعيشها على اثر المحاولة الانقلابية لرفعت فارد تخفيف الضغط عليه ففتح قنوات المفاوضات مع الاخوان في الخارج فكان الاخوان بعد سنتين من هذه المفاوضات بحاجة لاظهار قوة لهم في الداخل ولو بشكل مصطنع فطلبوا من ايمن شربجي تفجير عبوة ناسفة في حاوية قمامة في ساحة المرجة مقابل 10 الاف ليرة وهو ما اثار حنق شربجي عليهم وقال: نحن مجاهدون ولسنا مرتزقة

موقف الطليعة من الاخوان

وفي أواخر عام 1978 ومع تصاعد المواجهة بين الطليعة بقيادة عبد الستار الزعيم والنظام اعتقلت السلطات بعض قياديي الاخوان وملاحقة اخرين فكان ردهم السفر خارج سوريا وتحريض اتباعهم للخروج خارج سوريا فسافر من يستطيع السفر اما من كان ملاحقا فانضم الى الطليعة فشكل بانضمامه عبئ على الطليعة لانها كانت عناصر ملاحقة ويجب حمايتها[14] وزاد عبؤها خلال عام 1980 اذ ساعدت في تضخيم الطليعة لاسيما في حلب حيث زادت الاعداد دون وجود قدرة على تدريبها وتمويلها والانفاق عليها فتحولت الطليعة في حلب وحماة من تنظيم سري ينتهج حرب العصابات طويلة الامد كما خطط له مروان حديد وعبد الستار الزعيم الى تنظيم على وشك الصدام السافر مع السلطة ويحمل الشربجي المسؤولية عن ذلك لقيادات الاخوان بفرعيها العطار وسعد الدين التي هربت من سوريا وتركت كوادرها خلفها دون تنظيم او تدريب[15]

"ونحن منذ تأسيس تنظيمنا لم نعط البيعة لـ "الاخوان المسلمين" لاسباب لا مجال لذكرها"[16]

قال هشام جنباز للشربجي: "لا مانع لدينا من إقامة علاقة مساعدة بينكم وبين الاخوة خارج سوريا ولكن من الناحية التنظيمية لا علاقة لنا بهم نهائيا، فعلاقتنا معهم هي علاقة تعاون وتقديم مساعدات فقط"[17]

كان رد الاخوان: "نحن نسير على المبدأ التالي: ان العمليات توجد التفاعلات، نفذوا ولو باهداف بسيطة: عامل موظف صغير، عمليات تفجير"[18]

في وقت ما هرب خارج سوريا احد عناصر الطليعة واسمه نبيل حبش والتجأ الى الاخوان في الخارج فاحسن الاخوان اليه بدل محاكمته ورفعوه الى اعلا المناصب القيادية التي كانت كما قال الشربجي اكبر من عقله وامكانياته

1986  وكان المحرض المباشر على كتابته ما قامت به قيادات الاخوان في الخارج من محاولات ابتزاز ومساومه للطليعة ومحاولة تحويلها لاداة تعمل لمصالحها الذاتية وفي بعض الأوقات تشويه لسمعة قيادتها واعمالها القتالية واحيانا الاستفادة من عملياتها ونسبتها لنفسها بجسب مصالحها الذاتية  ووصلت ذروتها عام 1986 عندما ساومت قيادات الاخوان شربجي على تفجير  قنبلة في ساحة المرجة مقابل 10 الاف ليرة لا لهدف حقيقي سوى اظهار انفسهم ان لهم قوة في دمشق خلال مفاوضاتهم مع حافظ الأسد وهو ما اعتبره شربجي إهانة له وللطليعة المقاتلة وانهم مجاهدون وليسوا مرتزقة فقال لهم من جملة ما قال

وهناك ثلاثةمن قادة الاخوان في الخارج اثنى عليهم شربجي هم: عدنان سعد الدين الذي قال انه كان يتعاون معنا بكل دقة وامان وإخلاص. وسعيد حوى الذي قال انه يق به, وحسن هويدي الذي لا نشك في اخلاصه وتفانيه.. ويعقي شربجي ان هؤلاء تم ابعادهم وتجميدهم وعزلهم، ويتساءل: "هل هناك قرار بضرب المجاهدين في الداخل وابعاد كل من يتعاون معهم في الخارج؟"[19]

الاخوان المسلمون وايران الخميني:

يتطرق شربجي الى موقف  الاخوان المحابي  للخميني  وكان شربجي قد استفتى الاخوان في موقفهم من ايران وثورة الخميني والعلاقة بين حافظ الأسد والخميني الذي بارك مجزرة حماة... فقال له الاخوان وقتها: "ان مواقف الإيرانيين من نظام اسد مؤقته نظرا لضرورة ظروفهم الدولية الصعبة" ويجيبهم شربجي: عندما دققنا في عقيدة الشيعة الاثني عشرية وجدنا انهم مجوس كفرة حاقدون على الإسلام اكثر من اليهود ويتقربون الى الله بقتل المسلمين" فهل خلافاتكم البينية لم تسمح لكم بدراسة عقيدة الخميني؟

 

 

[1] ص36

[2] ص37

[3] ص55

[4] ص52

[5] ص29

[6] 215

[7] ص37

[8] 34

[9] ص167

[10] ص168

[11] ص37

[12] ص38

[13] ص200

[14] ص106

[15] ص161 وما بعدها

[16] ص216

[17] ص208

[18] 210

[19] 39

الثلاثاء، 16 يوليو 2024

  


لا خليفة بعد المتوكل بن المعتصم:

قبل سنوات وقبل ان يظهر اردوغان وحزبه على الصعيد التركي وقبل ان يظهر ما يبدو انه توجه تركي اسلامي في الساحة لم يكن احد يطق على سلاطين بني عثمان اسم خليفة ولم يكن موضوع ان سلاطين بني عثمان خلفاء امرا مطروحا للنقاش على الصعيد الاكاديمي او على صعيد الثقافة العامة لان هذا الامر كان محسوما اكاديميا على الاقل في ان دولة بني عثمان ليست خلافة وانما دولة من دول الاسلام.

هذا الموضوع جديد ومستحدث وهناك من يروجه ويسعى لاقراره كما لو ان خلافة بني عثمان حقيقة تاريخية ولا استطيع لوم مشجعي جماهير برشلونة او ريال مدريد احفاد من اخرج اجدادهم من الاندلس  اذا صاروا من مشجعي الخلافة العثمانية فهؤلاء يتحركون بالعواطف ويتعلمون من التلفاز ويبنون اراء ومعتقدات على اساس المسلسل والفيلم ونوع المبارة

كتبت مرة أنه لا خليفة بعد المتوكل، واقصد به المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد اول خليفة عباسي قتله الاتراك وانتهى معه الزمن الذي كان الخليفة يملك ويحكم وانفرط من بعدها عقد الخلافة وصارت ككرة القدم يتقاذفها الاتراك بحيث انه منذ قتل المتوكل وحتى قتل هولاكو لاخر شخص تلقب بلقب الخليفة  كان الاتراك  وطوال قرن من الزمن يخلعون الخلفاء قتلا او سملا ويأتون باخرين حتى جاء البويهيون الفرس فاقصوا الاتراك وضاروا مكانهم في اللعبة، فلما جاء السلاجقة الاتراك واقصوا البويهيين كان هم طغرلبك (وهو ليس ارطغرل لمن حدود ثقافته التاريخية مسلسل) ان يحصل على لفب سلطان من الخليفة فلما ناله لم يعد للخليفة عند السلاجقة اي ذكر او اهمية فقد اختاروا خرسان قاعدة لهم وليس العراق وبقي هذا الحال حتى دخول هولاكوا بغداد سنة 656هـ كان الخليفة والخلافة طوال الفترة منذ قتل المتوكل وحتى قتل هولاكو للمستعصم منصب شكلي فقد تمزقت الدولة الاسلامية من مشرقها حتى مغربها وكان المنصب الوحيد الذي قد يتنازع عليه المتنازعون قبل البويهيين هو امير الامراء لان من يحوزه يحكم باسم الخليفة منزوع الصلاحيات.

بعيد معركة عين جالوت وانحسار المد المغولي وقتل بيبرس لقطز نشأت اشكالية عند المماليك في انهم طبقة عبيد وبحسب الشرع لا يجوز للعبد ان يحكم كما انهم في الاصل انقلبوا على اسيادهم الايوبيين وكان بيبرس نفسه يعاني من مشكلة قتله لقطز ولكي يصطنع لنفسه وللمماليك شرعية في حكم الشام ومصر اخترع خليفة فاظهر للناس شخصا قال انه من اولاد الخليفة المستعصم الذي قتله هولاكو وسماه المستعصم. وسمته العامة المستعصم الاسود ذلك انه كان ذو بشرة سوداء على غير سمت بني العباس وفي ذلك دلالة على ان الناس كانت مقتنعة بان الخليفة الذي جاء به بيبرس ليس حقيقيا ولكن العبة نجحت، وفي مراسيم احتفالية صنعها بيبرس قام المستعصم الاسود بتقليد بيبرس شؤون الحكم وسماه سلطانا وفوضه بحكم البلاد وعاد بعدها الى بيته، ومنذ ذلك التاريخ صار الخليفة يظهر للناس في كل مرة يتم فيها تتويج سلطان جديد من المماليك ليتوجه ويفوضه بحكم البلاد والعباد ثم يعود الى بيته، وقد يسأل سائل لم لم يتنازل الخليفة عن خلافته دفعة واحدة لبيبرس ويصبح بيبرس هو الخليفة؟ والجواب ان الخليفة بحسب النصوص الدينية يجب ان يكون عربيا وبشكل خاص من قريش لذا فكرة ان يصبح اعجمي خليفة هي فكرة مرفوضة بحكم الشرع والعادة منذ نشأ منصب الخلافة 

استمر هذا التقليد الذي عمل به المماليك قرابة ثلاثة قرون حتى دخول قوات سليم الاول الشام ومصر بعد معركة مرج دابق 1516م وقتل اخر سلاطين المماليك طومان باي.

لم يسعى سليم الاول بعد دخوله مصر ليحصل من الخليفة المقيم في مصر على شرعية لحكمه كما كان يفعل سلاطين المماليك لانه بكل بساطة كان يرى نفسه يملك السلطان وهو بمنزلة اكبر من ان يحوز الشرعية من خليفة لا يملك من امره شيئا. كان هم سليم الاول الحصول على المتعلقات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم والتي غدت مع الزمن من رموز الحكم والشرعية وهي البردة والعصاة والخاتم وقد اخذها من اخر خليفة، وهنا تظهر الخدعة التي روجها من كتب عن تاريخ الدولة العثمانية والتي يروج لها اليوم وهي ان اخر خليفة تنازل لسليم الاول عن الخلافة

ان سليم الاول لم يكن مهتما اصلا بالحصول على هذا التنازل، كما انه ما من دليل على انه حدث لقاء بين سليم الاول واخر خليفة تنازل فيه هذا عن الخلافة لذاك عندما رحل سليم الاول عن مصر اخذ معه المتوكل ولكن اخذه للمتوكل لم يكن اكراما له او تقدير بل كان لاسباب سياسية بحتة فقد خاف سليم الاول من بقايا المماليك وان يتحول الخليفة الى رمز يعيد المماليك من خلاله تجميع انفسهم فاخذ معه الخليفة ليفقد المماليك احد اسباب شرعية حكمهم التي استمرت لقرون. بدليل ان الخليفة لم يقم في استانبول بل تم سجنه ان صح التعبير في قلعة خارج استانبول في اقامة جبرية استمرت الى ما بعد وفاة سليم الاول حيث سمح له بعدها بالعودة الى مصر

لم يكن سلاطين العثمانيين حريصين على لقب خليفة ولم يكن يستخدموه الا في قائمة القابهم فالحاكم العثماني كان اسمه في السجلات والمراسلات وكتب التاريخ (السلطان) وليس الخليفة ويفضل السلاطين اضافة اسم (خان) التركي الى اسمائهم على امير المؤمنين فمن اين جاء معاصرونا اليوم ببدعة الخلافة العثمانية والخليفة العثماني متجاوزين حقائق التاريخ كلها

لا شك ان الدولة العثمانية كانت دولة مهمة في التاريخ الاسلامي ولها محاسن عديدة قبل القرن التاسع عشر ولكن تاريخ الاسلام كما يروج الاعلام التركي ومن يشايعه لم يبدأ عام 1299م، والسلطنة العثمانية سبقتها دول عديدة وعتيدة لا تقل عن الدولة العثمانية اثرا في تاريخ الاسلام (الغزنويون، الخوارزميون، مغول الهند...) يراد اليوم محوها ومحو عصر التأسيس الاول وعصر الاباء العظام المؤسسين من العرب وتقزيم تاريخ الاسلام وحصره بالحقبة التركية 

ان دولة لم تحكم بالشرع الاسلامي واسقطت الحدود واستبدلتها بالاتاوات وسمحت ببيوت الدعارة ومصانع الخمور وفضلت الذمي على اهل القبلة... كيف تسمى خلافة اسلامية ويسمى حاكمها خليفة لرسول الله؟

الخميس، 11 يوليو 2024

 




الغالية، الزندقة، الباطنية، التصوف، الغنوصية

مصطلحات تاريخية اسلامية يظنها الكثيرون انها متباينة ومختلفة عن بعضها، لكنها في مدلولاتها هي نفس الشيء والفرق الوحيد بينها هو المعنى اللغوي وان كل مصطلح خاص بعصر محدد من عصور الاسلام استخدمه اهل ذلك العصر للدلالة على اتباع تيار ديني خلط بين الفلسفة الاغريقية والدين

خلال العصر الهلنستي (333 – 30 ق م) الذي ابتدأ في الشرق بغزو الإسكندر المقدوني وانتهى مع الغزو الروماني وسقوط السلوقيين في سوريا والبطالمة في مصر، طبع الإغريق المنطقة بطابع حضاري توافقي شمل كل نواحي الحياة فزاوجوا بين الموروث الحضاري الإغريقي والموروث الحضاري الشرقي الذي نتج عنه ما عرف باسم (الهلنستية)  فنشأ على الصعيد الديني نتيجة ذلك تيار ديني مازج بين العقائد الشرقية القديمة وفلسفات الإغريق كفلسفة أرسطو وفيثاغورث وأفلاطون وأفلوطين، وقد عُرف هذا التيار في بعض مراحل تطوره باسم (الهرمسية) نسبة لشخصية أسطورية أو حقيقية اسمها هرمس (ادريس، أخنوخ)  ينسب اليه أتباع الهرمسية أصولهم الفكرية والاعتقادية. وقد ظهرت الهرمسية ابتداء في الإسكندرية لكنها انتشرت خارج مصر لاسيما فلسطين وأثرت في الحالة الدينية لليهود أولًا ثم للمسيحيين بعد ظهور المسيحية، ومن تلاقي الهرمسية مع اليهودية والمسيحية ظهر تيار آخر يطلق عليه الباحثون المعاصرون بشكل ارتجاعي اسم (الغنوصية) من الكلمة الإغريقية (Gnosis) التي تعني (المعرفة) لأن أتباعه انتهجوا طريق المعرفة (معرفة الله) على أسس فلسفية للوصول إلى الخلاص دينيًا بدل العمل بظاهر النصوص الدينية التي تنتهج طريق العمل والعبادة.  في حين اطلق عليهم المسيحيون في القرون الميلادية الأولى اسم جامع (الهراطقة) واتسع المصطلح ليشمل كل الفرق المسيحية التي عارضت الصيغة المسيحية لمجمع نيقية في بدايات القرن الرابع الميلادي فكان منهم: المرقيونية، والفالانتينية واتباع باسيليد وحديثا الكاثاريون....

 ورغم تعدد تيارات الغنوصية إلا أنها جميعها تشترك بأصول واحدة منها: ظهور الله بشرًا، مبدأ الثنوية، التناسخ، احتقار المرأة، عقيدة وحدة الوجود، الاعتقاد بالقيمة الرمزية للحروف والأرقام، علم الباطن....

خلال القرن الأول الميلادي وما تلاه تعرض الغنوصيون لحملات الملاحقة من قبل الكنيسة المسيحية والدولة البيزنطية التي اعتبرتهم كفار (هراطقة) فهرب الكثير منهم نحو بلاد فارس والعراق حيث لا سلطان لبيزنطة والكنيسة هناك، فأنشأوا تجمعات لهم في جنوب العراق وفي المدائن عاصمة الفرس كان لها أثرها على الديانة السائدة في فارس في ذلك الوقت وهي الزرادشتية (المجوسية) فنشأ فيها بفعل الغنوصيين تيار غنوصي زرادشتي تبلورت أصوله على يد ماني (ت267م) مؤسس الديانة المانوية التي زاوجت بين المسيحية الغنوصية والزرادشتية.

عندما حل المسلمون في العراق بعد القادسية (15هـ/636م) وهزيمة الفرس كان أول لقاء بين الإسلام والغنوصية، ورغم أن المسلمين أسسوا مدنًا خاصة لهم (الكوفة والبصرة) ولم يختلطوا مع السكان الأصليين ابتداءً، إلا أن موقع مدينتي البصرة والكوفة كان قريبًا بما يكفي من مراكز المانوية في المدائن والصابئة جنوب العراق ليختلط أولئك بالمسلمين على أطراف تلك المدن أو داخل المجتمع المسلم بعد أن أظهروا الإسلام وارتبطوا مع القبائل العربية برابطة الولاء التي نتج عنها ما يعرف في التاريخ الإسلامي باسم (الموالي) وهم الفرس الذين أسلموا وانتسبوا لإحدى القبائل العربية برابطة الولاء وليس الدم.

لقد كان العرب الذين سكنوا الكوفة والبصرة هم بغالبيتهم من المرتدين السابقين فرضت ظروف الحرب مع فارس على عمر بن الخطاب إعادة استخدامهم في الجيش في معركة القادسية بعد أن كانوا ممنوعين من ذلك منذ خلافة أبي بكر، لذلك كان مجتمع الكوفة والبصرة هو خليط من عرب الردة السابقين ومن الفرس الذين أسلموا أو ادعوا الإسلام ظاهرًا وبقوا على دين الأباء: الزرادشتية والمانوية، لذا لم يكن غريبًا أن يكون هذا الوسط هو الذي نشأت فيه الغنوصية الإسلامية الأولى التي كان عبد الله بن سبأ أول من جاهر بمعتقداتها عندما نادى بألوهية علي بن أبي طالب(ت40هـ) وقد اطلق على هؤلاء بداية اسم الغلاة والغالية ثم اتسعت دائرة الغلاة لاحقًا وشكلت تيارات ومذاهب عُرفت في القرن الثاني الهجري باسم جامع (الزندقة)  ومثلت وجهًا من الحركة الشعوبية في العصر العباسي ضد العرب والإسلام ثم صار يشار لها بعد القرن الرابع الهجري باسم الفرق الباطنية ان كانت شيعية الصبغة والصوفية ان كانت سنية الصبغة

إن كلمة الزندقة والزنادقة التي أطلقت على المجموعات الغنوصية الإسلامية مأخوذة من اسم كتاب المانوية المقدس (زندافستا) وقد تمثلت الزندقة والزنادقة في القرن الثاني الهجري في تيارات عديدة أهمها ثلاثة:

التيار الأول كان مانويًا بحتًا تظاهر بالإسلام وأبطن عقائد الأجداد الفرس وأشهر المنتسبين اليه بشار بن برد، وابن المقفع، وابن أبي العرجاء... وهؤلاء مثلوا حالات فردية لا تنظيم لهم على خلاف التيار الثاني الذي صبغ زندقته بصبغة التشيع وكانت له دعاوى سياسية ودينية ومطامع في الحكم والسلطة، واتباعه هم المنتسبون إلى الفرق الشيعية الغالية ومن كبارهم عبد الله بن معاوية، وجابر بن يزيد الجعفي وأبي الخطاب محمد بن أبي زينب... (النصف الأول من القرن 2هـ) وهؤلاء لوحقوا وحوربوا وبطش بهم، وفي كل ضربة كان يتلقاها هذا التيار من قبل السلطة الحاكمة في حربها على الزندقة كان اتباعه يتشظون وينقسمون إلى فرق، غالبها كان يندثر وبعضها القليل استمر ولا سيما اتباع الإسماعيلية والنصيرية (العلوية) الذين بقوا إلى يومنا.

التيار الثالث في الغنوصية الإسلامية كان تيارًا انتهج أسلوب الزهد في ظاهره وانعزل اتباعه عن الشؤون العامة ولم تكن لهم اهتمامات بالسياسة والحكم لذلك نما هذا التيار بعيدًا عن الضوء ولم يلاق ما لاقاه الزنادقة المانويين والشيعة لا سيما أن ولاية أهل البيت لم تكن جزء من اعتقاده مثل الزنادقة الشيعة، لذلك حسب على أهل السُّنَّة على عكس التيار الثاني الذي حسب على الشيعة... أضف إلى أن الزندقة  المحسوبة على أهل السُّنَّة لم تظهر إلا في وقت متأخر مقارنة بالزندقة الشيعية فأول من جاهر بعقائد الغنوصيين المتمثلة بعقيدة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود كان أبو يزيد البسطامي (منتصف القرن 3هـ) في حين أن أول حركات الزندقة الشيعية ظهرت منذ القرن الأول لذلك سلط عليها الضوء وكتب عنها أكثر مما سلط وكتب عن حركات الزندقة السُّنيَّة. وان كان الحلاج هو اشهر شخصية صوفية قتل على زندقته مطلع القرن الرابع الهجري فان ضعف الخلافة بعد هذا التاريخ وسيطرة الاعاجم عليها وفر البيئة المناسبة لنمو هذا التيار وانتشاره وجاء السلاجقة بعدها فكانوا اكبر عونا لانتشار التصوف بحكم انهم كانوا على عقائد الصوفية ولم يعرف بعد الحلاج ان أحدا قتل على الزندقة (التصوف) الا السهروردي الذي قتله صلاح الدين الايوبي.

أطلق على الغنوصية المحسوبة على أهل السُّنَّة اسم (الصوفية والتصوف) وهو اسم اختلف الصوفية أنفسهم في معناه وقد يكون المصطلح جاء من (الصفا) وهو مصطلح مشترك بين كل الفرق الغنوصية الإسلامية فعند الإسماعيلية وجد إخوان الصفا، وعند النصيرية يوجد عالم الصفا (الجنة) وعند الصوفية نهاية طريق السالك في الطريقة  هو الوصول إلى الصفا (عودة الفرع: الإنسان، إلى الأصل الذي جاء منه: الله)

يقسم الدارسون التصوف إلى أقسام بحسب تطوره، فيقولون: بدأت حركة التصوف على شكل نزعة للزهد نشأت في البصرة في القرن الثاني الهجري كان روادها الحسن البصري وإبراهيم بن الادهم والسري السقطي... ثم تطورت وانشقت إلى تصوف إسلامي يعتمد الكتاب والسُّنَّة كتصوف ابن الادهم وأبي حامد الغزالي.... وتصوف يعتمد الفلسفة الإغريقية كتصوف البسطامي والحلاج والسهروردي وابن عربي... ولكن ما يبدو في الواقع العملي اليوم أن لا فرق بين من يدعي التصوف الإسلامي ومن يدعي التصوف الفلسفي فكلاهما يقتبس ويعتقد بما اعتقده أصحاب التصوف الفلسفي من عقائد في وحدة الوجود والحقيقة المحمدية ووحدة الأديان ... وهي أصول مشتركة عند اتباع العقائد الباطنية والصوفية كلها مما يجعل من تقسيم التصوف إلى إسلامي وفلسفي ضرب من التنظير المخالف للواقع، فالتصوف كله فلسفي يمازج بين الإسلام والفلسفة الإغريقية لا سيما الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة ويتطابق في أصوله مع أصول الغنوصية الأولى التي ظهرت في العصر الهلنستي وبنت معتقداتها على مزج الفلسفة الإغريقية بأديان الشرق وتابعت تطورها بالاندساس في كل دين والتلون بلونه دون ان تتنازل عن مبادئها بل اتخذت من الدين قشرة رقيقة أخفت بها ما تعتقده حقيقة.

الثلاثاء، 9 يوليو 2024

يوم عاشوراء
بين التراجيديا الشيعية والكوميديا العلوية



يوم عاشوراء، بين التراجيديا الشيعية والكوميديا العلوية:

يقع يوم عاشوراء في العاشر من محرم من كل سنة، وله معنى دينيا عند الطوائف يختلق باختلاف الطائفة وعقائدها فما يعنيه عند المسلمين يختلف عما يعنيه عند الشيعة الاثني عشرية ويختلف عما يعنيه عند النصيرية (العلوية) و ان اتفقوا جميعا على يوم العاشر من محرم.

يشكل يوم العاشر من محرم عند الشيعة الاثني عشرية يوم حزن و نواح و لطم على الذي خذلوه و سلموه الى اعدائه في ذلك اليوم، اقصد به  الحسين بن علي بن ابي طالب. ففي هذا اليوم من عام 61 للهجرة  كان الحسين قد وصل الى كربلاء في العراق استجابة لمراسلات الشيعة ليقودهم في الثورة على بني أمية ويزيد بن معاوية وواليه على العراق عبيد الله بن زياد ، فلما حشد عبيد الله بن زياد بن ابيه  قواته لمنازلة الحسين، هرب الشيعة و تركوا الحسين و اهل بيته وحيدا في المعركة ، و كاد الامر ينتهي عند ترك الحسين يرحل لولا ان احد شيعة العراق اغرى ابن زياد بالحسين و حرضه عليه و هو   الشمر بن ذي الجوشن، قائلا لابن زياد: كيف تترك الحسين يرحل و هو في ارضك دون ان يخضع لك، فرفض الحسين الاستسلام لابن زياد فكانت معركة الطف و استشهد الحسين و من معه، و كان الذي قتل الحسين هو الشمر بن ذي الجوشن و كان ممن بايع عليا و تشيع له و قاتل معه في صفين، و قال الحسين قولته الشهيرة قبل موته: اللهم انهم دعونا لينصرونا فسلمونا لعدونا، اللهم لا ترضي الولاة عنهم ابدا - او كما قال -.

وكان كل من شارك في قتل الحسين من اهل العراق و لم يشترك في قتله احد من اهل الشام و مع ذلك يحمل قتلة الحسين وزر قتل الحسين لاهل الشام. على مبدأ المثل العربي: رمتني بدائها وانسلت.

لم يكن لقتل الحسين في السنوات التالية لموته أي معنى ديني حتى كانت سنة 65هـ حيث ظهرت نزعة بين من ادعوا انهم انصار الحسين فخرجوا بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي يريدون التكفير عما اقترفوه من خذلانهم للحسين وتركه وحيدا ليقتل يوم كربلاء، فتجمعوا وسموا نفسهم (التوابون) وخرجوا الى قبر الحسين معلنين التوبة والحزن عما فعلوه من خذلانهم للحسين، ومن حركة التوابين تشكل جيش بقيادة سليمان بن صرد لقتال بني امية والقصاص من عبيد الله بن زياد لكن الجيش انهزم في اول موقعة وقتل قادته وانتهى امره في معركة عين الوردة، فكانت هذه الحادثة هي البداية الأولى للمعاني التراجيدية التي اضفيت على يوم عاشوراء ومقتل الحسين وأصبحت مع توالي السنين عقيدة وعقدة تحكم عقلية ونفسية الشيعة واضيف اليها مع الزمن مظاهر الضرب والتطبير وتعذيب الذات بالسكاكين والسلاسل لا سيما في زمن الدولة الصفوية التي اقتبست واستوردت من اوربا طقوس اللطم والتعذيب من الجماعات المسيحية التي تمارس هذا النوع في ذكرى يوم صلب المسيح كما ذكر علي شريعتي....

ورغم مظاهر التوبة والندم التي مارسها التوابون ومن جاء بعدهم على نهجهم الا ان التاريخ يذكر ان هذا الندم الظاهري لم يمنعهم من قتل بعض ال البيت او خذلانهم لاخرين فقد قتلوا بعد الحسين بن علي اخاه عبيد الله بن علي بن ابي طالب في الكوفة، قتله اتباع المختار الثقفي الذين ورثوا التوابين.  كذلك فعلوا مع زيد بن علي بن الحسين مثلما فعلوا مع جده الحسين تماما يوم ثار في الكوفة 121هـ، فقد حرضوه على الثورة على يزيد بن عبد الملك ثم انفضوا عنه وتركوه يلاقي مصير الحسين...

اما يوم عاشوراء عند النصيرية فهو على عكس ما هو عند الشيعة، فبدل الحزن و اللطم و البكاء فان النصيريين يحتفلون في هذا اليوم بالفرح و السرور و الزهور و عبد النور( الخمر )، فالحسين في عقيدتهم هو معنى مثلي و اسم ذاتي اي هو مثل الله ( المعنى ) و ذات النبي محمد (الاسم ) فالمعنى أزال الحسين وظهر مثل صورته ، فكيف الله يقتل و يموت؟ و هذا ما قاله شيخهم النصيري ابراهيم مرهج: " و لسنا بحمد الله من حزب الباكين على ربهم في يوم عاشوراء ". و هو ما صاغه الحسين بن حمدان الخصيبي (ت346هـ) شعرًا:

وباكي يبكي على ربه

لست بحمد الله من حزبه

او كما قال المكزون السنجاري (ت 638هـ):

و ليوم عاشور فعندي و الذي

بسط البسيطة يوم عيدي و الهنا             

تذهب النصيرية في قتل الحسين الى القول ان الحسين حدث معه كما حدث مع عيسى بن مريم ، فان الذين تمالؤا عليه ظنوا انهم قتلوه لكن في الحقيقة فقد شبه لهم ذلك فلم يقتل و لم يصلب و كذلك الحسين شبه لهم قتله فألقيت الشبهه على شخص اخر قتلوه ظنا منهم انه الحسين، اما الحسين فقد عرج الى السماء. كما بين شيخ الطائفة الخصيبي:

سلام على من حجب الله شخصه

 وأظهر للأعداء شبها كصورته

كعيسى وهو عيسى ولا فرق بينهم

يرونه مشهورا ويا حسن شهرته

وقالوا قتلناه وما كان قتله

 ولا صلبوه بل شبيها لرؤيته

كذاك حسينا شبهوه بكربلا

كما شبهوا عيسى سواء كسيرته

أما الشخص الذي شبَّه لهم و ألقيت عليه شبه الحسين فقتلوه فهو عمر بن الخطاب، فالقتل واقع حقيقة في عمر، لذلك كانت ذكرى قتل الحسين عند النصيرية يوم عيد و فرح لان المقتول حقيقة هو عمر بن الخطاب و ليس الحسين، فيقول الخصيبي:

والقتل والصلب على من جنى

 بارز بؤساء في حربه

فإن جهلتم ويلكم شخصه

 فمن نفيل جاء ومن لزبه

ومن صهاك ثم من حنتم

  زوجة خطاب ومن عقبه

اما كيف ألقيت الشبهة على عمر بن الخطاب ووقع  به القتل رغم ان عمر مات قبل حادثة كربلاء بعقود فذلك من باب تفريغ البغض و الانتقام من شخص الذي كسر كسرى. ففي الميثولوجيا النصيرية فان عمر بن الخطاب لا يموت بل هو باق حتى يرث الله الارض و من عليها فهو ليس بشريا و ان ظهر بصورة البشر، فهو ابليس الابالسة يتصور في كل وقت بصورة مختلفة، و عمر بن الخطاب هو احد تلك الصور التي ظهر بها و كل قتل منذ قتل قابيل لهابيل واقع باطنًا في عمر، فالذي قتله قابيل في الباطن هو عمر، و الكبش الذي ذبحه ابراهيم الخليل في الباطن هو عمر ، و الحسين الذي قتل في كربلاء هو في الباطن عمر .... جاء في المصادر النصيرية :

" و كل البطش و المثلة مما ظهر في المعنى في جميع المقامات  واقع بمن جناه و سنة و هو ابليس الابالسة و فرعون الفراعنة الشيطان المفرد في كتاب الله و هو الثاني لعنه الله  ..." ( 6)

و يختصر المكزون السنجاري في دعاء طويل مخصوص بيوم عاشوراء عقيدة القوم في مقتل الحسين و انه يوم عيد لان القتل وقع بعمر بن الخطاب في الحقيقة ... و سنقتصر على بعض الفقرات من دعاء المكزون بما يوضح عقيدتهم في يوم عاشوراء :

مولاي ... نبرأ اليك ممن كفر نعمتك و انكر معرفتك و والى اعداءك و عادى اولياءك ... يا رباه يا سيداه يا علياه يا حسناه يا حسيناه ... اللهم فاشهدنا في هذا اليوم ما اشهدت به اولياءك  و ادم لنا في رقدتنا عيدا ... و لا تجعلنا فيه ممن ندبك و بكاك و دعا الها سواك ... و العن اول قاتل و مقتول فيه و من ال اليه فهو الصهاكي اللعين و قائد الكفرة و الظالمين و اساس المعاصي في العالمين ... يا عليا يا عظيم

يذكر ان يوم العاشر من محرم عند المسلمين (السنة) لا يعني اكثر من يوم سن النبي صلى الله عليه وسلم صيامه للمسلمين لموافقة هذا اليوم يوم خروج موسى وبني إسرائيل من مصر ونجاتهم من فرعون، والمسلمون أولى باليهود من موسى

 

و نختم بقصة قتل الحسين كما ينقلها احد المصادر النصيرية، يرويها المفضل بن عمر الجعفي نقلا عن جعفر الصادق بزعمه:

قال المفضل: اخبرني يا مولاي عن قصة الحسين كيف اشتبه على الناس قتله ؟

قال الصادق:

ان الحسين لما خرج الى العراق و كان الله محتجب به ،صار لا ينزل منزلا الا و يأتيه جبريل يحدثه حتى اجتمعت العساكر عليه ، فدعى الحسن جبريلا  و قال له يا اخي : من انا ؟ قال جبريل : انت الله الذي لا اله الا هو الحي القيوم و المميت و المحي .... قال الحسين لجبريل : أترى هذا الخلق المنكوس يحدثوا انفسهم بقتل سيدهم ؟ انطلق الى الملعون عمر بن سعد و اسأله من يريد ان يقاتل ؟، فانطلق جبريل الى ابن سعد فوصل اليه فاخترق مجلسه و حوله قواده و حرسه  حتى وصل اليه ، فقال عمر من الرجل ، فقال جبريل : انا عبد من عبيد  الله  جئت اسألك عمن تريد ان تحارب ، فقال عمر : اريد ان احارب الحسين بن علي ، فقال جبريل : ويحك تقتل رب العالمين و اله الاولين و الاخرين و خالق السموات و الارض و ما بينهما ، فلما سمع عمر بذلك خاف خوفا شديدا و قال لحاشيته خذوه ، فقاموا اليه بالسيوف فتفل في وجوههم فخرو منكوسين و خر ابن سعد من على كرسيه ، و خرج جبريل ، فلما افاقوا قال عمر بن سعد ارأيتم مثل ما رايت ، اخبروني ما العمل ، فقال شيخ : ربما هو ابليس قد تزيا لنا ، فقال ابن عمر : ابليس احد اعواننا و نحن من حزبه و جنده و متفقين على قتل ابن بنت رسول الله ، فقال رجل : ان الحسين و اباه كانا يشتغلان بالسحر و ما رايناه هو من هذا السحر ، فاطمأن عمر و صدق الرجل و قال سأكون اول من يرمي بسهمه في عسكر الساحر ، فحشد جموعه و على طليعته رجلين حبشيين عظيمين عيونهما كانهما الجمر  ، فققال الحسين لجبريل : اريدك ان تاتيني بتركيب هذين الرجلين في المسوخية ، فجذبهما جبريل من على فرسيهما و احضرهما الى الحسين فاذا هما كبشان املحان ، فصاح بهما الحسين : ارجعا الى ما تعرفان به ، فاذا هما اسودان ملعونان في دماغ كل منهما حديدة تدخل من دماغه و تخرج من دبره ، فقال الحسين يا اخي جبريل من هذان ، قال يا مولاي هما : سعد و معاوية، فقال لهما الحسين : كيف رايتما عذابي في المسوخية ؟ فقالا : اشد عذاب فاخرجنا الى الابدان البشرية فقد عرفنا الحق فارحمنا برحمتك يا ارحم الراحمين ، فقال الحسين لا رحمكما الله و مردودين في المسوخية الف سنة ، فقالا اغفر لنا ، فقال الحسين رحمتي و عفوي للاولياء و الاصفياء و باسي و نكالي على اعداء الله الظالمين ، و صاح بهما صيحة ساخا و عادا الى اصحابهما مع عمر بن سعد

قال المفضل : هل كان مع الحسين احد من المؤمنين الموحدين ، قال جعفر : كان معه مؤمن موحد ستراه معنا ، فحضر ابو الخطاب و قال : انا كنت مع الحسين

ثم ان الحسين لما احاطوا به طلب جبريل و ميكايل و اسرافيل ، فقالوا لبيك يا ربنا ، فقال اعتلوني الى الهواء ، فرفعوا الحسين و غلامه جبريل ثم اخذهم اخذ عزيز مقتدر

قال المفضل : هل كان اصحاب الحسين يرون جبريلا ؟ قال الصادق : نعم و يرون ميكائيل و اسرافيل ، قلت في صورة واحدة ام في صور شتى ؟ قال عليه السلام : بل في صورتنا

قال المفضل : يا مولاي متى رايت جبريل ؟ قال : اليوم ، قال المفضل : اين؟ قال : في منزلنا ،قلت أي وقت ؟ قال في ساعتك هذه ، اتحب ان يكلمك ؟ ، قلت : أي و الله ، فسأل الصادق ابا الخطاب : أانت جبريل ؟ قال ابو الخطاب : و الله انا جبريل و انا الذي وجهني الحسين لعمر بن سعد و انا الذي اكببت وجوههم في النار و انا المتولي عذابهم ، انا صاحب ادم الاول و صاحب نوح و  ابراهيم و دانيال و التابوت و الصحف و موسى و عيسى و محمد و انا ابو الخطاب و ابو الطيبات و انا مع القائم بين يديه انسف الظالمين نسفا و انا احيي و اميت و ارزق بامر ربي

ثم اقبل رجلان لم اعرفهما ، فقال الصادق : اتعرفهما ؟ قلت : لا يا مولاي ، قال : هذان ميكائيل و اسرافيل احدهما كان في المشرق و الاخر في المغرب ، قلت : ماذا كانا يفعلان ؟قال ارسلتهما في حاجة ، فقلت جل ربي ما اعظم شأنه ( 8 )

 

 

================

  مرهج – شرح ديوان المنتجب العاني – مخطوط – ص 262

2- ديوان الخصيبي – ص 42

3- مرهج – نفس المصدر– ص 171

4- ديوان الخصيبي – 36 ،37

5- ديوان الخصيبي – ص 48

6- الخصيبي – الرسالة الرستباشية – مخطوط – ص 100

7- المكزون السنجاري – ادعية الاعياد – مخطوط – ص 32 – 37

8- الهفت -ص 96-102

 



الاستيطان العلوي في الساحل السوري:

                تشكل الزاوية الشمالية الغربية من بلاد الشام الجزء الساحلي  من سوريا الحالية المطل على البحر الأبيض المتوسط، وتنقسم هذه المنطقة بدورها إلى قسمين: منطقة السهل الساحلي المطل على البحر وتتركز فيه المدن الرئيسية: انطاكيا، اللاذقية ، طرطوس، جبلة، بانياس وجزيرة ارواد. ويمتد السهل جنوبًا ليشمل سواحل لبنان وفلسطين. والقسم الثاني من المنطقة الساحلية هو السلسلة الجبلية التي تشكل بدورها الجزء الشمالي مما يعرف تاريخيًا باسم جبال اللكام الذي يمتد من البحر الأحمر حتى انطاكيا ويأخذ أسماءً محلية بحسب البلد الذي يمر به:  جبل لبنان، جبل بهراء وتنوخ، جبل اللكام في اللاذقية[1] ولاحقا اطلق عليه جبال النصيرية بعد ظهور النصيرية فيه.
شكل السهل الساحلي من انطاكيا وحتى فلسطين الموطن التاريخي لكنعاني الساحل الذين عرفوا تاريخيًا باسم الفينيقيين وفي هذا السهل قامت مدنهم التاريخية التي لازال معظمها موجودًا واشهرها: أوغاريت وارواد وجبيل وصور وصيدا... أما المناطق الجبلية فلا يُعرف بشكل دقيق نوعية من سكنها وإن كانت بعض أسماء المناطق الحالية يمكن ارجاعها إلى الارامية أو الكنعانية مما يدل على وجود بشري سامي منذ القدم في تلك المناطق مع أن العنصر الهندوأوربي شكل شريحة مهمة من سكان الجبال كامتداد لنفس العنصر الذي سكن الاناضول من مثل الحثيين والكاشكيين واللوديين... وأشهر امتداداتهم المعروفة في العصور الوسطى الجراجمة أو المردة من بقايا الفرس الميديين، خضعت مدن الساحل في أواخر العصور القديمة للسيطرة الاشورية والكلدانية وكانت سيطرة متذبذبة قوبلت بالثورات أحيانًا لدوافع ذاتية لهذه المدن أو بتحريض من الفراعنة. ثم دخلت المنطقة تحت السيطرة المباشرة للفرس الاخمينيين الذين أثّروا في التركيبة السكانية من خلال الجيوب التي وطنوا فيها الفرس كحاميات عسكرية بقيت موجودة كعنصر بشري بعد سقوط الاخمينيين وحتى الفتح الإسلامي لاسيما في مدن لبنان الساحلية... وخلال العصر الهلنستي فان من أهم ما خلفه الاغريق في المنطقة مدينتي اللاذقية وانطاكيا وبقايا الاغريق الذين استقروا في تلك المدن، فلما جاء الرومان اضافوا العنصر الروماني للتركيبة السكانية والتي بقيت على شكل حاميات عسكرية حتى الفتح الإسلامي
 ابتدأ الفتح الإسلامي للساحل الشامي قبل معركة اليرموك وبعد فتح دمشق حيث أنه بعد فتح حمص سنة 14هـ أُرسلت حملة عسكرية بقيادة عبادة بن الصامت الانصاري الذي سار إلى اللاذقية وحاصرها حتى دخلها بالحيلة وهرب كثير من أهلها النصارى ثم عادوا وصالحوا المسلمين على خراج يؤدونه فصالحهم عبادة وترك لهم كنيستهم وبنى في المدينة مسجدًا فكان ذلك بداية دخول الإسلام[2] وبعد فتح اللاذقية فُتحت جبلة وانطرسوس (طرطوس) وبانياس وكانت حصونًا عسكرية غادرها أهلها من الروم سنة 15هـ، تبع ذلك فتح انطاكيا والجرجومة... ويلاحظ من مجمل الروايات التاريخية عن الفتح الإسلامي لتلك النواحي غياب العنصر العربي في التركيبة السكانية في تلك المناطق فكان تعامل الفاتحين يتم مع نصارى غير عرب، ويلاحظ أيضًا أنه عند الفتح لم تكن سوى اللاذقية وانطاكيا في المدن الساحلية الشمالية ما يمكن أن نطلق عليه اسم مدن اكتسبت شهرتها عبر الزمن من اهتمام السلوقيين الذين بنوها واطلقوا عليها اسماءها الحالية، وبقيت لها خلال العصر الروماني أهميتها بينما أماكن مثل جبلة وبانياس وطرسوس فكانت أقرب للحصون العسكرية البيزنطية جلى عنها معظم سكانها من البيزنطيين بعد الفتح الإسلامي.
حدث بعد الفتح الإسلامي للمناطق الساحلية الشمالية الغربية من بلاد الشام  فراغ سكاني في مدن الساحل عمومًا بسبب اعتماد سياسة الإجلاء للسكان المحليين أحيانًا بسبب مساعدتهم للبيزنطيين أو بسبب هجرة طوعية من السكان المحليين الذين لحقوا بالروم رافضين دفع الجزية أو الإسلام مثلما حدث مع جبلة بن الايهم الغساني الذي لحق بالروم مع 30 الفًا من قومه كما أن وقوعها فيما بعد على خطوط الاشتباك بين المسلمين والبيزنطيين جعل منها أماكن لا يرغب كثير من الناس بالاستقرار فيها لانعدام الأمان ناهيك عن أن المناطق الجبلية المحاذية لها لم تكن مما يستهوي العرب السكن فيها لأن العرب تفضل السهل على الجبل، وفيما بعد تسبب الفراغ السكاني في فراغ أمني حاول العرب تعويضه بإعادة إعمار المدن الساحلية ونقل السكان إليها من مناطق أخرى لصد غارات البيزنطيين، وبدأ بهذه السياسة معاوية بن أبي سفيان منذ كان واليًا على الشام زمن عمر بن الخطاب فيذكر أنه نقل جماعة من الفرس وأهل بعلبك وحمص إلى انطاكيا، وبنى حصنا في جبلة وشحنه بالرجال وبنى مدينة أنطرطوس (طرطوس) ومصرها، وأقطع بها القطائع للمقاتلة، وكذلك فعل ببانياس[3] ونقل سنة 49ه إلى السواحل قوما من زط البصرة  وأنزلهم انطاكية وأسكن الوليد بن عبد الملك فيما بعد مثلهم من زط السند[4] وقد بقيت سياسة التوطين والإعمار لمناطق الساحل معمولًا بها طوال العصر الاموي وحتى بداية العصر العباسي فنقل أبو جعفر المنصور سنة 758هـ ومن بعده المأمون سنة 820هـ جل عرب معرة النعمان وأُسكنوا في بيروت وما جاورها  لصد غارات الروم المتكررة  وحماية الطرق من حلفاء الروم[5]
وقد كان من الأسباب الإضافية لنقص السكان غير ما مر الكوارث الطبيعية لاسيما الزلازل التي كانت تشهدها المنطقة  على فترات متباعدة أشهرها سنة 245هـ الذي دمر جبلة وأهلك أهلها ولم يسلم من اللاذقية إلّا اليسير[6]. أما إغارات الروم المتكررة فكانت عاملًا إضافيًا مستدامًا ساهم في نقص السكان الذين كانوا يتعرضون في حالات الانكسار للقتل أو السبي أو التهجير... ومع كل هذا وخلال قرنين من الزمن بعد الفتح تكاثر العرب المسلمون في المدن الساحلية وأصبحوا عنصرًا مهمًا من سكانها إن لم يكن الأهم لاسيما القبائل اليمانية التي شكلت غالب العرب في جند حمص الذي كانت المدن الساحلية الشمالية تتبع له خلال القرن الثالث الهجري من خلال ما ذكره اليعقوبي (ت 295هـ)، فيقول: وعلى ساحل البحر من جند حمص أربع مدن: مدينة اللاذقية وأهلها قوم من يمن من سليح وزبيد وهمدان ويحصب وغيرهم، ومدينة جبلة وأهلها همدان وبها قوم من قيس ومن أياد، ومدينة بلنياس وأهلها أخلاط، ومدينة أنطرسوس وأهلها قوم من كندة[7].
أما في الجبال الساحلية المحاذية للمدن الساحلية والتي يطلق عليها اسم جبال اللكام فان العنصر البشري الذي سكنها منذ قبل الفتح الإسلامي كان خليطًا من عنصرين أساسيين: النبط (السريان) والجراجمة. وقد مثل الجراجمة مع من كان ينحاز اليهم من النبط منذ مطلع العصر الاموي مشكلة للدولة الاموية من خلال انحيازهم للبيزنطيين وقطع طرق الثغور والإغارة على حصون المسلمين وجيوشهم في أوقات تحرك هذه الجيوش في مناطق الثغور... كان أكبر تجمع للجراجمة قرب انطاكيا في مدينة لهم اسمها الجرجومة فتحها أبو عبيدة بن الجراح سلمًا على شروط عند فتح انطاكيا وبقي الجراجمة بعدها متذبذبين بين المسلمين والبيزنطيين حتى مطلع حكم عبد الملك بن مروان حيث شنوا الغارات بمساعدة البيزنطيين على طول جبال اللكام ووصلوا حتى لبنان وساعدهم النبط  فاضطر عبد الملك لمهادنتهم على مال يؤديه لهم لانشغاله بحرب ابن الزبير ثم لما فرغ من ابن الزبير أرسل لهم قوة عسكرية فرقت شملهم فعاد أغلبهم إلى الجرجومة وانتشر بعضهم في قرى حمص فلما كانت خلافة الوليد بن عبد الملك أرسل اليهم حملة بقيادة مسلمة بن عبد الملك فاجتاج بلادهم وهدم الجرجومة ونقل معظم الجراجمة إلى لبنان واسكنهم هناك.
مع نهاية الدور الأول العباسي الذي انتهى بقتل الخليفة المتوكل سنة 232هـ على يد الأتراك وسيطرة الأتراك على مقاليد الحكم ضعفت الخلافة وأصبحت اسمًا دون معنى وتراخت قبضتها على الأطراف وكان منها بلاد الشام التي أصبحت مرتعًا للدعوات الشيعية والتنازع بين الإمارات شبه المستقلة عن الدولة كالحمدانيين والاخشيديين والولاة الأتراك للدولة العباسية فنتج عن هذا مطلع القرن الرابع الهجري ظهور قوى جديدة كان الطابع المميز لها أنها شيعية فقد نجح الاسماعيليون انطلاقًا من سلمية قرب حمص من اشعال ثورة في شمال افريقيا بمساعدة البربر انتهت بسيطرتهم على تونس سنة 296هـ ثم ضموا إليها مصر التي أصبحت قاعدتهم انطلقوا منها نحو بلاد الشام ليصطدموا في فترة لاحقة مع الحمدانيين الشيعة الذين سيطروا على حلب وما جاورها وامتدوا نحو وسط سوريا، هذا في الوقت الذي انشق جناح من الإسماعيلية مشكلًا جماعة القرامطة التي انخرطت في نفس النزاع على بلاد الشام مع الأطراف الأخرى ولم يلبث بتاثير من دعاة القرامطة أو الإسماعيلية أن حدثت إحدى كبرى الهجرات العربية للقبائل البدوية نحو بلاد الشام وتشكلت بشكل أساسي من قبائل بني عامر بن صعصعة القيسية (نمير، عقيل، قشير، كلاب، هلال، سليم) وكان ما يميز هذه القبائل أنها شيعية المعتقد دون ان يعرف تمامًا كيف تشيعت. ونتج عن هذه الهجرة تغيير في التركيبة الدينية لبلاد الشام التي أصبحت إما شيعية أو محكومة من قبل دولة شيعية وفي خاتمة هذه التغييرات التي حدثت مطلع القرن الرابع الهجري سيطر البويهيون وهم شيعة من فرس الديلم سيطروا على بغداد واصبحوا هم الحكام باسم الخليفة المغلوب على امره.
 كانت هذه الأوضاع التي اتسمت بها بلاد الشام في القرن الرابع هي ما شكل البيئة الخصبة لظهور الفرق الباطنية واستقرارها في بلاد الشام ومن ثم تصارعها وتطاحنها في الشمال الغربي لبلاد الشام، بدأ الأمر أولًا بالاسحاقيين ثم ظهر النصيريون ثم تبعهم في الظهور الدروز وأخيرًا الاسماعيليون اتباع قلعة الموت وحسن الصباح.
ولو رجعنا لنهاية القرن الثالث وبالتحديد لعام 287هـ فان شخصية كانت مجهولة وقتها اسمها الحسين بن حمدان الخصيبي هاجر من جنبلاء إلى بغداد بعد أن مات شيخه المعروف باسم الجنان الجنبلاني الذي تعلم الخصيبي منه أصول العقائد الغالية واعتنق النصيرية على يديه، هاجر الخصيبي إلى بغداد وأقام فيها قرابة خمس وعشرين عامًا انخرط فيها هناك في المجموعات الشيعية والصوفية وربطته بأحد دعاة الإسماعيلية علاقة وثقى وهو الحسين بن منصور المعروف تاريخيًا باسم الحلاج تسببت هذه العلاقة بسجن الخصيبي بعد أن تم قتل الحلاج في بغداد بتهمة الزندقة سنة 309هـ وبقي في السجن لثلاث سنوات وغادره عام 312هـ ولحق بالشام في الوقت الذي كان الصراع على أشده بين الخلافة والاخشيديين والقرامطة والحمدانيين للسيطرة على بلاد الشام فأقام في حلب برهة ثم غادرها جنوبًا نحو دمشق التي بقي فيها حتى عام 333هـ وهو العام الذي سيطر فيه البويهيون على بغداد والحمدانيون على حلب فغادر الشام إلى العراق فأقام فيه فترة قصيرة ثم رحل إلى حلب واتصل بسيف الدولة الحمداني ومات الخصيبي عام ٣٤٦هـ أو بعدها ودفن في حلب، وعندما مات كان قد ترك عدة جيوب نصيرية في بلاد الشام لا تعرف أعدادها ولكن يعرف وجودها من خلال المصادر النصيرية والمصادر التاريخية أهمها في حلب وما جاورها حيث أقام، وفي حران وفي مدن الساحل اللبناني: صور وصيدا وبعلبك. وفي منطقة الجولان وطبريا
بعد الخصيبي أشرف على تجمع النصيريين في حلب تلميذ له اسمه محمد بن علي الجلي وكان أنجب مريديه واقربهم اليه هو الميمون بن قاسم الطبراني  (358-426هـ) الذي يعود أصله إلى منطقة طبرية شمال فلسطين وفي زمن الطبراني هذا الذي ورث زعامة النصيريين بعد شيخه الجلي حدث حدثين مهمين في تاريخ النصيرية: الأول افتتاح النزاع بينه وبين زعيم الاسحاقية أبو ذهيبة إسماعيل بن خلاد ومن ثم النزاع الدموي بين النصيرية والاسحاقية. والثاني انتقاله من حلب واقامته في اللاذقية وعلى اثر هذا بدأ اتباعه من النصيريين في التحول للسكن في الجبال الساحلية
ظهرت الاسحاقية المنسوبة إلى إسحاق بن محمد النخعي بشكل متزامن مع النصيرية وكان صاحبها مع صاحب النصيرية محمد بن نصير النميري من نفس ذات الجماعة الغالية لكن التنافس الشخصي بين الشخصين أدى لانقسام ظهر بموجبه فرعين انتسب كل واحد منها لصاحبه مع أن الاسحاقية دون النصيرية بدرجة في الغلو فالنصيرية تؤله علي بن أبي طالب أما الاسحاقية فتؤله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي فترة ما بعد نشوب النزاع بين فرق الشيعة عمومًا على بابية الإمام الغائب انقسم الغلاة إلى فرقتين: الاسحاقية والنصيرية. وفي وقت سابق عن النصيرية أوجدت الاسحاقية موطئ قدم لها خارج العراق فانتشرت في المدائن وظهرت في المدن الساحلية اللبنانية وامتدت إلى جبال الساحل السوري وقد ظهرت الاسحاقية مطلع القرن الخامس الهجري من خلال زعيمها إسماعيل بن خلاد البعلبكي الذي تنعته المصادر النصيرية بكنية (أبو ذهيبة) وينعته الطبراني باسم (الرجل المرجل وطائفته باسم العصابة المقصرة)  وقد عاصر ميمون الطبراني وتنازع معه فكريًا أولا في نزاع هو تكرار لنفس النزاع بين ابن نصير واسحاق بن محمد ثم تطور النزاع من الاشتباك الفكري إلى الاشتباك بالأيدي انتهى أخيرا بمقتل ابن خلاد بعد ان تحول ميمون إلى اللاذقية فاتحا الطريق لمن هو نصيري في قتل كل من هو اسحاقي...
إن الاحداث السابقة من صراع النصيرية مع الاسحاقية وبدء إيجاد موطئ قدم لها في الساجل السوري بقيادة ميمون الطبراني لم تحدث بمعزل عن الظروف المحيطة في المنطقة والتي استجدت مطلع القرن الخامس الهجري، القرن الذي بدأ فيه زوال النفوذ والتواجد الشيعي في المنطقة ومن ثم نهاية القرن الشيعي (القرن الرابع)
في عام 296هـ نجح الاسماعيليون في إنشاء دولتهم في شمال افريقيا على أنقاض دولة الاغالبة  ثم سيطروا على كل شمال افريقيا وفي السنين اللاحقة قاتلوا الاخشيديين في مصر حتى نجحوا في السيطرة على مصر وأسسوا القاهرة التي أصبحت عاصمتهم منذ عام 362هـ زمن المعز لدين الله الفاطمي، وبعدها عملوا على مد نفوذهم إلى بلاد الشام فدخلوا في نزاع مع القرامطة والحمدانيين انتهى بسيطرتهم على معظم بلاد الشام حتى حلب سنة 363هـ التي سقطت فيها الامارة الحمدانية التي عاشت الجماعة النصيرية في سلطانها، ولم يلبث ان سيطر بنو مرداس الكلابيون على حلب مؤسسين الدولة المرداسية وقاعدتها حلب منذ عام 414هـ ومدوا نفوذهم إلى الساحل اللبناني وشمال سورية ودخلوا في علاقات متذبذبة مع الفاطميين تراوحت بين الحرب والمهادنة واستمروا في حكم حلب حتى عام 472هـ حيث حل مكانهم العقيلون أصحاب الموصل. وفي الزمن الذي حكم المرداسيون فيه حلب حدثت عدة تحولات تاريخية ودينية في المنطقة ساهمت في تغيير هوية المنطقة الساحلية عمومًا:
1.     كان المرداسيون مثل الحمدانيين شيعة ورغم ذلك لم يستسغ ميمون الطبراني الإقامة في حلب تحت حكمهم ربما لعلاقتهم بالاسماعيليين الودية أحيانًا أو ربما _ولا يوجد دليل- أنه كان لهم ميل للاسحاقية القريبة في معتقداتها للاسماعيلية. لذا ترك ميمون حلب وانتقل إلى اللاذقية وبانتقاله بدأت عملية هجرة النصيريين من مركز انتشار النصيرية في داخل بلاد الشام إلى الجبال الساحلية حول طرطوس وسهل الغاب أما الجبال شمال اللاذقية فلن يظهر العنصر النصيري فيها إلّا في العصر المملوكي. ولم يحدث هذا الانتقال النصيري دفعة واحدة بل استغرق زمنا حتى صار واقعًا، والذي يعرف عن ميمون بعد انتقاله إلى اللاذقية هو  صراعه مع زعيم الاسحاقية ابن خلاد الذي قُتل خلال هذا الوقت واستن أتباعه به فقاتلوا الاسحاقيين فقتلوهم وشرّدوهم وأحرقوا بيوتهم وآثارهم، ومن بقي بعدها من الإسحاقية سيكمل اجتثاثه المكزون السنجاري بعد قرنين من زمن الطبراني. بعد ان انتهى ميمون من الاسحاقية استقر في اللاذقية في منطقة الميناء القديم وبقي هناك حتى مات 426هـ ودفن في مسجد الشعراني على أنه رجل دين صوفي وبقي قبره موجودًا هناك حتى الثمانينيات من القرن العشرين حيث نقل قبره إلى قرية بسنادا.
2.     في عام 386هـ توفي الخليفة الفاطمي العزيز وخلفه ابنه الحاكم بأمر الله وكما هو معروف فان الحاكم ادعى الألوهية وجاهر بما لا يجب من عقائد الإسماعيلية الباطنية فأسس بذلك لدين جديد بالنسبة لعوام الناس مما دفع البيت الحاكم لاغتياله فظهر تبعًا لادعاءات الحاكم في الألوهية جماعة من الإسماعيليين ألَّهت الحاكم وعبدته وعندما قُتل تحولت هذه الجماعة للسكن في بلاد الشام وبالتحديد في وادي التيم (جنوب شرق لبنان بين الجنوب والبقاع) دعيت هذه الجماعة تاريخيًا وفي المصادر باسم الدروز نسبة لشخص اسماعيلي اسمه نشتكين الدرزي، لكن ولاءها كان لحمزة بن علي الزوزني الذي مثل دور نبي الحاكم والمبشر بعودته. عندما سكن الدروز في وادي التيم جاوروا مجموعات من النصيرية سبقتهم في الاستقرار هناك ولم يكن هناك ود بين الطرفين لكن حالة العداء لم تتطور إلى الاشتباك المباشر كما حدث مع الاسحاقية بل توقفت عند الجدل الفكري الذي مارسه الدروز ضد العقائد النصيرية التي اعتبرها حمزة بن علي عقيدة كفرية إباحية في إحدى رسائله المعروفة بعنوان"الرد على الفاسق النصيري لعنه الله"  وفي وقت لاحق سيتحالف النصيريون مع الدروز في قتال الطلائع الأولى للاسماعيليين الحشاشين عند ظهورهم في المنطقة في وادي التيم. أما الدروز فيما يبدو فلم يتوسعوا في مناطق سكنهم باتجاه جبال الساحل الشمالية وبقيت كتلتهم الأساسية في جبل لبنان والمدن اللبنانية الساحلية في صيدا وصور وقد ذكرهم بنيامين التطيلي في رحلته نهاية القرن السادس الهجري أنهم في الساحل اللبناني ونسب لهم عقائد اباحية هي أقرب للنصرية مما يوحي ان الامر اختلط عليه
3.     بعد الانشقاق الدرزي عن الإسماعيلية بعد موت الحاكم بامر الله سنة 411هـ حدث انشقاق آخر في الإسماعيلية الحاكمة في مصر سنة 487هـ فقد مات الخليفة المستنصر حفيد الحاكم بأمر الله ونشأ صراع بين ولديه المستعلي ونزار على خلافته وانتهى النزاع بقتل نزار وانتصار المستعلي فانقسمت الإسماعيلية لقسمين: المستعلية (البهرة حاليًا) والنزارية (الاغاخانية حاليًا) وقد مال حسن الصباح صاحب قلعة الموت إلى نزار وكان هذا الميل هو سبب ظهور الجماعة الإسماعيلية (الحشاشون) في بلاد الشام ثم تركزها في المناطق الجبلية في سهل الغاب منافسة ومزاحمة للنصيرية في تلك المناطق.
4.     في زمن المستنصر الذي حدث بعد موته الانشقاق الإسماعيلي، ظهرت من شرق الخلافة قوة ناشئة هم السلاجقة بقيادة سلطانهم طغرلبك الذين زحفوا إلى بغداد بطلب من الخليفة العباسي فدخلوا بغداد وأنهوا التسلط الشيعي البويهي سنة 447هـ  ثم زحفوا نحو الشام في زمن السلطان الب أرسلان وخلال الفترة بين عامي 463-465هـ سيطروا على معظم بلاد الشام وأنهوا الوجود الإسماعيلي الفاطمي الذي عاد واستعاد بيت المقدس بعد سنوات ولكن عندما حدث هذا كانت طلائع الصليبيين قد وصلت بلاد الشام في الحملة الصليبية الأولى سنة 492هـ فوقعت بلاد الشام بين ضغط قوتين: السلاجقة من الشرق والصليبيين من الغرب فكان ذلك مما سرع عملية انحسار القوى الشيعية عمومًا وانسحاب اتباع الفرق الباطنية لاسيما النصيريين والجناح الإسماعيلي النزاري نحو المناطق الساحلية الجبلية، وكان الخطر الأكبر على اتباع هذه الفرق الباطنية من القوى السنية التي استعادت نفوذها وقيادتها لبلاد الشام في مواجهة الغزو الصليبي خلال الدولتين الزنكية والايوبية فالنهضة السنية التي رعاها نور الدين زنكي من ازالة مظاهر التشيع ونشر السنة  أدت إلى انهاء الدولة الفاطمية ومدها الشيعي ووضعت اتباع المذاهب الباطنية في حالة حصار ضمن وسط سني فلم يكن من خيار أمامها سوى التغير بما يناسب متطلبات العصر أو الرحيل فانسحبت التجمعات النصيرية بشكل متدرج من مناطق وجودها في الداخل نحو المعاقل الجبلية حيث لا تطالها يد السلطة الحاكمة فزال وجودهم من حمص وحماة ومدن الساحل اللبناني ومن حلب معقلهم الأساسي إلّا قليلا منهم آثر الإقامة متخفيًا بعقائده واستمر حتى العصر العثماني، وكذلك فعل من بقي من اتباع الإسماعيلية فحل النصيريون والاسماعيليون في المناطق الجبلية الساحلية متجاورين ومتحاربين غالبًا
في عام 487هـ عندما مات الخليفة الفاطمي المستنصر وظهر الانشقاق المستعلي-النزاري كان حسن الصباح قد سيطر على قلعة الموت وأسس جماعة الحشاشين الاسماعيلية المعروفة تاريخيًا، وبدافع موالاته لنزار أرسل بعد مقتله إلى الشام احد اتباعه ويدعى بهرام الذي مارس نشاطًا دعويًا في حلب ودمشق منذ سنة 519هـ  وتقرب من حاكم دمشق السلجوقي البوري الذي شعر بخطره بعد حين فأعطاه قلعة بانياس الجولان ليتخلص منه فاتخذها قاعدة للتوسع ونشر الدعوة ونحج بعد سنتين في دخول وادي التيم حيث اصطدم مع تحالف نصيري درزي انتهى بقتله وتبع ذلك عملية ملاحقة وقتل لاتباعه في دمشق وطردوا من بانياس فاتخذوا من مناطق الجبال الساحلية الشماليةملجأ تجمعوا فيه واشتروا عام 526هـ قلعة القدموس ثم قلعة الكهف قرب طرطوس وانطلاقًا منها سيطروا على قلعة مصياف سنة 534هـ التي أصبحت مركزا لهم ثم وسعوا نفوذهم وسيطروا على قلاع: الخوابي والعليقة وأبو قبيس والمرقب... وهي ما سميت بقلاع الدعوة على مقربة من مناطق انتشار النصيريين الذين خضعوا لضغط الاسماعيليين مع تسلم شيخ الجبل راشد الدين سنان قيادة الاسماعيليين في المنطقة سنة 557هـ  فكانت العلاقة متذبذبة حيث يذكر مصدر اسماعيلي أن النصيريين من أشد أعداء راشد الدين بينما يذكر أيضًا أن قسمًا منهم وقفوا مع الاسماعيليين في نزاعهم مع الصليبيين وبجميع الأحوال كانت العقلية النصيرية في ذلك الوقت غالبًا تساير الظروف فقد تخضع للاسماعيليين أو تنقلب عليهم إذا وجدت الفرصة وقد تصبح صليبية إذا استدعى الامر ذلك وجاء في تقويم الأزمنة  أن 60 الف نصيري اعتنقوا المسيحية ليتخلصوا من الاتاوات التي كانوا يدفعونها للصليبيين. ونفس الأمر يقال عن الاسماعيليين في علاقتهم مع محيطهم زمن شيخ الجبل فقد كانت علاقته تتبع المصلحة الآنية أكثر من العقيدة فقد يتحالف مع الصليبيين إذا ما جاء التهديد من صلاح الدين فقد حاولوا قتله أكثر من مرة، ثم تحالفوا معه عندما أوشك على اجتياح قلاعهم ونفذوا عدة عمليات اغتيال بالصليبيين لصالح صلاح الدين... بعد عام 567هـ. وبعد معركة حطين واستعادة القدس 582هـ مات شيخ الجبل سنة 588هـ وبدأ الحشاشون يخسرون قلاعهم  وضعف تأثيرهم في الاحداث لذا انكفأوا نحو المنطقة المنتشرين فيها ومارسوا مع من انضم من اكراد إلى المنطقة ضغطًا على النصيريين دفع النصيريين للاستنجاد بقوة من خارج المكان لحمايتهم فجاءهم المكزون السنجاري من جبل سنجار (سنجار ادلب غالبا وليس سنجار العراق كما يزعمون) بحملتين يبالغ النصيريون في أعدادها، ففي الحملة الأولى سنة 617هـ انهزم المكزون واتباعه أمام الاسماعيليين فانسحب وعاود الكرّة بعد ثلاث سنوات بحملة أكبر هزم فيها الاسماعيليين وقاتل الاكراد ولم ينس المكزون الإجهاز في طريقه على من بقي من الاسحاقية فجمعهم وناظرهم وأحرق كتبهم وأعدم زعماءهم، ثم نظم أمور العلويين وارتحل من المكان بنفسه تاركًا من جاء معه ليستوطن المكان مما زاد من نسبة النصيرية مقارنة بالاسماعيلية الذين سيصبحون مع الوقت أقل عددًا من النصيريين وموضع الهجوم عليهم واجتثاثهم حتى العصر الحديث
خلال مرحلة استيطان النصيريين  في جبال الساحل خلال القرون الوسطى ليس من الممكن تحديد أعدادهم ولكن يمكن تحديد أماكن تواجدهم فهم ظهروا في المناطق الداخلية أولا حول حلب ومنها انتشروا إلى سرمين وسلمية وحماة وحمص ومنها تمددوا نحو السفوح الشرقية للجبال الساحلية وفي المرتفعات حول طرطوس وصافيتا، أما الجبال شمال اللاذقية فلن يظهر لهم انتشار فيها حتى العصر المملوكي. أما المدن الساحلية الرئيسية: اللاذقية، جبلة، بانياس فقد بقيت حتى فترة قريبة ذات غالبية سكانية من المسلمين وبعض المسيحيين ولم تكن أماكن استيطان للعلويين إلّا في التاريخ المعاصر من خلال عملية تغيير التركيبة السكانية لهذه المدن في فترة ما بعد سيطرة العلويين على الحكم في سوريا.