الثلاثاء، 9 يوليو 2024


الاستيطان العلوي في الساحل السوري:

                تشكل الزاوية الشمالية الغربية من بلاد الشام الجزء الساحلي  من سوريا الحالية المطل على البحر الأبيض المتوسط، وتنقسم هذه المنطقة بدورها إلى قسمين: منطقة السهل الساحلي المطل على البحر وتتركز فيه المدن الرئيسية: انطاكيا، اللاذقية ، طرطوس، جبلة، بانياس وجزيرة ارواد. ويمتد السهل جنوبًا ليشمل سواحل لبنان وفلسطين. والقسم الثاني من المنطقة الساحلية هو السلسلة الجبلية التي تشكل بدورها الجزء الشمالي مما يعرف تاريخيًا باسم جبال اللكام الذي يمتد من البحر الأحمر حتى انطاكيا ويأخذ أسماءً محلية بحسب البلد الذي يمر به:  جبل لبنان، جبل بهراء وتنوخ، جبل اللكام في اللاذقية[1] ولاحقا اطلق عليه جبال النصيرية بعد ظهور النصيرية فيه.
شكل السهل الساحلي من انطاكيا وحتى فلسطين الموطن التاريخي لكنعاني الساحل الذين عرفوا تاريخيًا باسم الفينيقيين وفي هذا السهل قامت مدنهم التاريخية التي لازال معظمها موجودًا واشهرها: أوغاريت وارواد وجبيل وصور وصيدا... أما المناطق الجبلية فلا يُعرف بشكل دقيق نوعية من سكنها وإن كانت بعض أسماء المناطق الحالية يمكن ارجاعها إلى الارامية أو الكنعانية مما يدل على وجود بشري سامي منذ القدم في تلك المناطق مع أن العنصر الهندوأوربي شكل شريحة مهمة من سكان الجبال كامتداد لنفس العنصر الذي سكن الاناضول من مثل الحثيين والكاشكيين واللوديين... وأشهر امتداداتهم المعروفة في العصور الوسطى الجراجمة أو المردة من بقايا الفرس الميديين، خضعت مدن الساحل في أواخر العصور القديمة للسيطرة الاشورية والكلدانية وكانت سيطرة متذبذبة قوبلت بالثورات أحيانًا لدوافع ذاتية لهذه المدن أو بتحريض من الفراعنة. ثم دخلت المنطقة تحت السيطرة المباشرة للفرس الاخمينيين الذين أثّروا في التركيبة السكانية من خلال الجيوب التي وطنوا فيها الفرس كحاميات عسكرية بقيت موجودة كعنصر بشري بعد سقوط الاخمينيين وحتى الفتح الإسلامي لاسيما في مدن لبنان الساحلية... وخلال العصر الهلنستي فان من أهم ما خلفه الاغريق في المنطقة مدينتي اللاذقية وانطاكيا وبقايا الاغريق الذين استقروا في تلك المدن، فلما جاء الرومان اضافوا العنصر الروماني للتركيبة السكانية والتي بقيت على شكل حاميات عسكرية حتى الفتح الإسلامي
 ابتدأ الفتح الإسلامي للساحل الشامي قبل معركة اليرموك وبعد فتح دمشق حيث أنه بعد فتح حمص سنة 14هـ أُرسلت حملة عسكرية بقيادة عبادة بن الصامت الانصاري الذي سار إلى اللاذقية وحاصرها حتى دخلها بالحيلة وهرب كثير من أهلها النصارى ثم عادوا وصالحوا المسلمين على خراج يؤدونه فصالحهم عبادة وترك لهم كنيستهم وبنى في المدينة مسجدًا فكان ذلك بداية دخول الإسلام[2] وبعد فتح اللاذقية فُتحت جبلة وانطرسوس (طرطوس) وبانياس وكانت حصونًا عسكرية غادرها أهلها من الروم سنة 15هـ، تبع ذلك فتح انطاكيا والجرجومة... ويلاحظ من مجمل الروايات التاريخية عن الفتح الإسلامي لتلك النواحي غياب العنصر العربي في التركيبة السكانية في تلك المناطق فكان تعامل الفاتحين يتم مع نصارى غير عرب، ويلاحظ أيضًا أنه عند الفتح لم تكن سوى اللاذقية وانطاكيا في المدن الساحلية الشمالية ما يمكن أن نطلق عليه اسم مدن اكتسبت شهرتها عبر الزمن من اهتمام السلوقيين الذين بنوها واطلقوا عليها اسماءها الحالية، وبقيت لها خلال العصر الروماني أهميتها بينما أماكن مثل جبلة وبانياس وطرسوس فكانت أقرب للحصون العسكرية البيزنطية جلى عنها معظم سكانها من البيزنطيين بعد الفتح الإسلامي.
حدث بعد الفتح الإسلامي للمناطق الساحلية الشمالية الغربية من بلاد الشام  فراغ سكاني في مدن الساحل عمومًا بسبب اعتماد سياسة الإجلاء للسكان المحليين أحيانًا بسبب مساعدتهم للبيزنطيين أو بسبب هجرة طوعية من السكان المحليين الذين لحقوا بالروم رافضين دفع الجزية أو الإسلام مثلما حدث مع جبلة بن الايهم الغساني الذي لحق بالروم مع 30 الفًا من قومه كما أن وقوعها فيما بعد على خطوط الاشتباك بين المسلمين والبيزنطيين جعل منها أماكن لا يرغب كثير من الناس بالاستقرار فيها لانعدام الأمان ناهيك عن أن المناطق الجبلية المحاذية لها لم تكن مما يستهوي العرب السكن فيها لأن العرب تفضل السهل على الجبل، وفيما بعد تسبب الفراغ السكاني في فراغ أمني حاول العرب تعويضه بإعادة إعمار المدن الساحلية ونقل السكان إليها من مناطق أخرى لصد غارات البيزنطيين، وبدأ بهذه السياسة معاوية بن أبي سفيان منذ كان واليًا على الشام زمن عمر بن الخطاب فيذكر أنه نقل جماعة من الفرس وأهل بعلبك وحمص إلى انطاكيا، وبنى حصنا في جبلة وشحنه بالرجال وبنى مدينة أنطرطوس (طرطوس) ومصرها، وأقطع بها القطائع للمقاتلة، وكذلك فعل ببانياس[3] ونقل سنة 49ه إلى السواحل قوما من زط البصرة  وأنزلهم انطاكية وأسكن الوليد بن عبد الملك فيما بعد مثلهم من زط السند[4] وقد بقيت سياسة التوطين والإعمار لمناطق الساحل معمولًا بها طوال العصر الاموي وحتى بداية العصر العباسي فنقل أبو جعفر المنصور سنة 758هـ ومن بعده المأمون سنة 820هـ جل عرب معرة النعمان وأُسكنوا في بيروت وما جاورها  لصد غارات الروم المتكررة  وحماية الطرق من حلفاء الروم[5]
وقد كان من الأسباب الإضافية لنقص السكان غير ما مر الكوارث الطبيعية لاسيما الزلازل التي كانت تشهدها المنطقة  على فترات متباعدة أشهرها سنة 245هـ الذي دمر جبلة وأهلك أهلها ولم يسلم من اللاذقية إلّا اليسير[6]. أما إغارات الروم المتكررة فكانت عاملًا إضافيًا مستدامًا ساهم في نقص السكان الذين كانوا يتعرضون في حالات الانكسار للقتل أو السبي أو التهجير... ومع كل هذا وخلال قرنين من الزمن بعد الفتح تكاثر العرب المسلمون في المدن الساحلية وأصبحوا عنصرًا مهمًا من سكانها إن لم يكن الأهم لاسيما القبائل اليمانية التي شكلت غالب العرب في جند حمص الذي كانت المدن الساحلية الشمالية تتبع له خلال القرن الثالث الهجري من خلال ما ذكره اليعقوبي (ت 295هـ)، فيقول: وعلى ساحل البحر من جند حمص أربع مدن: مدينة اللاذقية وأهلها قوم من يمن من سليح وزبيد وهمدان ويحصب وغيرهم، ومدينة جبلة وأهلها همدان وبها قوم من قيس ومن أياد، ومدينة بلنياس وأهلها أخلاط، ومدينة أنطرسوس وأهلها قوم من كندة[7].
أما في الجبال الساحلية المحاذية للمدن الساحلية والتي يطلق عليها اسم جبال اللكام فان العنصر البشري الذي سكنها منذ قبل الفتح الإسلامي كان خليطًا من عنصرين أساسيين: النبط (السريان) والجراجمة. وقد مثل الجراجمة مع من كان ينحاز اليهم من النبط منذ مطلع العصر الاموي مشكلة للدولة الاموية من خلال انحيازهم للبيزنطيين وقطع طرق الثغور والإغارة على حصون المسلمين وجيوشهم في أوقات تحرك هذه الجيوش في مناطق الثغور... كان أكبر تجمع للجراجمة قرب انطاكيا في مدينة لهم اسمها الجرجومة فتحها أبو عبيدة بن الجراح سلمًا على شروط عند فتح انطاكيا وبقي الجراجمة بعدها متذبذبين بين المسلمين والبيزنطيين حتى مطلع حكم عبد الملك بن مروان حيث شنوا الغارات بمساعدة البيزنطيين على طول جبال اللكام ووصلوا حتى لبنان وساعدهم النبط  فاضطر عبد الملك لمهادنتهم على مال يؤديه لهم لانشغاله بحرب ابن الزبير ثم لما فرغ من ابن الزبير أرسل لهم قوة عسكرية فرقت شملهم فعاد أغلبهم إلى الجرجومة وانتشر بعضهم في قرى حمص فلما كانت خلافة الوليد بن عبد الملك أرسل اليهم حملة بقيادة مسلمة بن عبد الملك فاجتاج بلادهم وهدم الجرجومة ونقل معظم الجراجمة إلى لبنان واسكنهم هناك.
مع نهاية الدور الأول العباسي الذي انتهى بقتل الخليفة المتوكل سنة 232هـ على يد الأتراك وسيطرة الأتراك على مقاليد الحكم ضعفت الخلافة وأصبحت اسمًا دون معنى وتراخت قبضتها على الأطراف وكان منها بلاد الشام التي أصبحت مرتعًا للدعوات الشيعية والتنازع بين الإمارات شبه المستقلة عن الدولة كالحمدانيين والاخشيديين والولاة الأتراك للدولة العباسية فنتج عن هذا مطلع القرن الرابع الهجري ظهور قوى جديدة كان الطابع المميز لها أنها شيعية فقد نجح الاسماعيليون انطلاقًا من سلمية قرب حمص من اشعال ثورة في شمال افريقيا بمساعدة البربر انتهت بسيطرتهم على تونس سنة 296هـ ثم ضموا إليها مصر التي أصبحت قاعدتهم انطلقوا منها نحو بلاد الشام ليصطدموا في فترة لاحقة مع الحمدانيين الشيعة الذين سيطروا على حلب وما جاورها وامتدوا نحو وسط سوريا، هذا في الوقت الذي انشق جناح من الإسماعيلية مشكلًا جماعة القرامطة التي انخرطت في نفس النزاع على بلاد الشام مع الأطراف الأخرى ولم يلبث بتاثير من دعاة القرامطة أو الإسماعيلية أن حدثت إحدى كبرى الهجرات العربية للقبائل البدوية نحو بلاد الشام وتشكلت بشكل أساسي من قبائل بني عامر بن صعصعة القيسية (نمير، عقيل، قشير، كلاب، هلال، سليم) وكان ما يميز هذه القبائل أنها شيعية المعتقد دون ان يعرف تمامًا كيف تشيعت. ونتج عن هذه الهجرة تغيير في التركيبة الدينية لبلاد الشام التي أصبحت إما شيعية أو محكومة من قبل دولة شيعية وفي خاتمة هذه التغييرات التي حدثت مطلع القرن الرابع الهجري سيطر البويهيون وهم شيعة من فرس الديلم سيطروا على بغداد واصبحوا هم الحكام باسم الخليفة المغلوب على امره.
 كانت هذه الأوضاع التي اتسمت بها بلاد الشام في القرن الرابع هي ما شكل البيئة الخصبة لظهور الفرق الباطنية واستقرارها في بلاد الشام ومن ثم تصارعها وتطاحنها في الشمال الغربي لبلاد الشام، بدأ الأمر أولًا بالاسحاقيين ثم ظهر النصيريون ثم تبعهم في الظهور الدروز وأخيرًا الاسماعيليون اتباع قلعة الموت وحسن الصباح.
ولو رجعنا لنهاية القرن الثالث وبالتحديد لعام 287هـ فان شخصية كانت مجهولة وقتها اسمها الحسين بن حمدان الخصيبي هاجر من جنبلاء إلى بغداد بعد أن مات شيخه المعروف باسم الجنان الجنبلاني الذي تعلم الخصيبي منه أصول العقائد الغالية واعتنق النصيرية على يديه، هاجر الخصيبي إلى بغداد وأقام فيها قرابة خمس وعشرين عامًا انخرط فيها هناك في المجموعات الشيعية والصوفية وربطته بأحد دعاة الإسماعيلية علاقة وثقى وهو الحسين بن منصور المعروف تاريخيًا باسم الحلاج تسببت هذه العلاقة بسجن الخصيبي بعد أن تم قتل الحلاج في بغداد بتهمة الزندقة سنة 309هـ وبقي في السجن لثلاث سنوات وغادره عام 312هـ ولحق بالشام في الوقت الذي كان الصراع على أشده بين الخلافة والاخشيديين والقرامطة والحمدانيين للسيطرة على بلاد الشام فأقام في حلب برهة ثم غادرها جنوبًا نحو دمشق التي بقي فيها حتى عام 333هـ وهو العام الذي سيطر فيه البويهيون على بغداد والحمدانيون على حلب فغادر الشام إلى العراق فأقام فيه فترة قصيرة ثم رحل إلى حلب واتصل بسيف الدولة الحمداني ومات الخصيبي عام ٣٤٦هـ أو بعدها ودفن في حلب، وعندما مات كان قد ترك عدة جيوب نصيرية في بلاد الشام لا تعرف أعدادها ولكن يعرف وجودها من خلال المصادر النصيرية والمصادر التاريخية أهمها في حلب وما جاورها حيث أقام، وفي حران وفي مدن الساحل اللبناني: صور وصيدا وبعلبك. وفي منطقة الجولان وطبريا
بعد الخصيبي أشرف على تجمع النصيريين في حلب تلميذ له اسمه محمد بن علي الجلي وكان أنجب مريديه واقربهم اليه هو الميمون بن قاسم الطبراني  (358-426هـ) الذي يعود أصله إلى منطقة طبرية شمال فلسطين وفي زمن الطبراني هذا الذي ورث زعامة النصيريين بعد شيخه الجلي حدث حدثين مهمين في تاريخ النصيرية: الأول افتتاح النزاع بينه وبين زعيم الاسحاقية أبو ذهيبة إسماعيل بن خلاد ومن ثم النزاع الدموي بين النصيرية والاسحاقية. والثاني انتقاله من حلب واقامته في اللاذقية وعلى اثر هذا بدأ اتباعه من النصيريين في التحول للسكن في الجبال الساحلية
ظهرت الاسحاقية المنسوبة إلى إسحاق بن محمد النخعي بشكل متزامن مع النصيرية وكان صاحبها مع صاحب النصيرية محمد بن نصير النميري من نفس ذات الجماعة الغالية لكن التنافس الشخصي بين الشخصين أدى لانقسام ظهر بموجبه فرعين انتسب كل واحد منها لصاحبه مع أن الاسحاقية دون النصيرية بدرجة في الغلو فالنصيرية تؤله علي بن أبي طالب أما الاسحاقية فتؤله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي فترة ما بعد نشوب النزاع بين فرق الشيعة عمومًا على بابية الإمام الغائب انقسم الغلاة إلى فرقتين: الاسحاقية والنصيرية. وفي وقت سابق عن النصيرية أوجدت الاسحاقية موطئ قدم لها خارج العراق فانتشرت في المدائن وظهرت في المدن الساحلية اللبنانية وامتدت إلى جبال الساحل السوري وقد ظهرت الاسحاقية مطلع القرن الخامس الهجري من خلال زعيمها إسماعيل بن خلاد البعلبكي الذي تنعته المصادر النصيرية بكنية (أبو ذهيبة) وينعته الطبراني باسم (الرجل المرجل وطائفته باسم العصابة المقصرة)  وقد عاصر ميمون الطبراني وتنازع معه فكريًا أولا في نزاع هو تكرار لنفس النزاع بين ابن نصير واسحاق بن محمد ثم تطور النزاع من الاشتباك الفكري إلى الاشتباك بالأيدي انتهى أخيرا بمقتل ابن خلاد بعد ان تحول ميمون إلى اللاذقية فاتحا الطريق لمن هو نصيري في قتل كل من هو اسحاقي...
إن الاحداث السابقة من صراع النصيرية مع الاسحاقية وبدء إيجاد موطئ قدم لها في الساجل السوري بقيادة ميمون الطبراني لم تحدث بمعزل عن الظروف المحيطة في المنطقة والتي استجدت مطلع القرن الخامس الهجري، القرن الذي بدأ فيه زوال النفوذ والتواجد الشيعي في المنطقة ومن ثم نهاية القرن الشيعي (القرن الرابع)
في عام 296هـ نجح الاسماعيليون في إنشاء دولتهم في شمال افريقيا على أنقاض دولة الاغالبة  ثم سيطروا على كل شمال افريقيا وفي السنين اللاحقة قاتلوا الاخشيديين في مصر حتى نجحوا في السيطرة على مصر وأسسوا القاهرة التي أصبحت عاصمتهم منذ عام 362هـ زمن المعز لدين الله الفاطمي، وبعدها عملوا على مد نفوذهم إلى بلاد الشام فدخلوا في نزاع مع القرامطة والحمدانيين انتهى بسيطرتهم على معظم بلاد الشام حتى حلب سنة 363هـ التي سقطت فيها الامارة الحمدانية التي عاشت الجماعة النصيرية في سلطانها، ولم يلبث ان سيطر بنو مرداس الكلابيون على حلب مؤسسين الدولة المرداسية وقاعدتها حلب منذ عام 414هـ ومدوا نفوذهم إلى الساحل اللبناني وشمال سورية ودخلوا في علاقات متذبذبة مع الفاطميين تراوحت بين الحرب والمهادنة واستمروا في حكم حلب حتى عام 472هـ حيث حل مكانهم العقيلون أصحاب الموصل. وفي الزمن الذي حكم المرداسيون فيه حلب حدثت عدة تحولات تاريخية ودينية في المنطقة ساهمت في تغيير هوية المنطقة الساحلية عمومًا:
1.     كان المرداسيون مثل الحمدانيين شيعة ورغم ذلك لم يستسغ ميمون الطبراني الإقامة في حلب تحت حكمهم ربما لعلاقتهم بالاسماعيليين الودية أحيانًا أو ربما _ولا يوجد دليل- أنه كان لهم ميل للاسحاقية القريبة في معتقداتها للاسماعيلية. لذا ترك ميمون حلب وانتقل إلى اللاذقية وبانتقاله بدأت عملية هجرة النصيريين من مركز انتشار النصيرية في داخل بلاد الشام إلى الجبال الساحلية حول طرطوس وسهل الغاب أما الجبال شمال اللاذقية فلن يظهر العنصر النصيري فيها إلّا في العصر المملوكي. ولم يحدث هذا الانتقال النصيري دفعة واحدة بل استغرق زمنا حتى صار واقعًا، والذي يعرف عن ميمون بعد انتقاله إلى اللاذقية هو  صراعه مع زعيم الاسحاقية ابن خلاد الذي قُتل خلال هذا الوقت واستن أتباعه به فقاتلوا الاسحاقيين فقتلوهم وشرّدوهم وأحرقوا بيوتهم وآثارهم، ومن بقي بعدها من الإسحاقية سيكمل اجتثاثه المكزون السنجاري بعد قرنين من زمن الطبراني. بعد ان انتهى ميمون من الاسحاقية استقر في اللاذقية في منطقة الميناء القديم وبقي هناك حتى مات 426هـ ودفن في مسجد الشعراني على أنه رجل دين صوفي وبقي قبره موجودًا هناك حتى الثمانينيات من القرن العشرين حيث نقل قبره إلى قرية بسنادا.
2.     في عام 386هـ توفي الخليفة الفاطمي العزيز وخلفه ابنه الحاكم بأمر الله وكما هو معروف فان الحاكم ادعى الألوهية وجاهر بما لا يجب من عقائد الإسماعيلية الباطنية فأسس بذلك لدين جديد بالنسبة لعوام الناس مما دفع البيت الحاكم لاغتياله فظهر تبعًا لادعاءات الحاكم في الألوهية جماعة من الإسماعيليين ألَّهت الحاكم وعبدته وعندما قُتل تحولت هذه الجماعة للسكن في بلاد الشام وبالتحديد في وادي التيم (جنوب شرق لبنان بين الجنوب والبقاع) دعيت هذه الجماعة تاريخيًا وفي المصادر باسم الدروز نسبة لشخص اسماعيلي اسمه نشتكين الدرزي، لكن ولاءها كان لحمزة بن علي الزوزني الذي مثل دور نبي الحاكم والمبشر بعودته. عندما سكن الدروز في وادي التيم جاوروا مجموعات من النصيرية سبقتهم في الاستقرار هناك ولم يكن هناك ود بين الطرفين لكن حالة العداء لم تتطور إلى الاشتباك المباشر كما حدث مع الاسحاقية بل توقفت عند الجدل الفكري الذي مارسه الدروز ضد العقائد النصيرية التي اعتبرها حمزة بن علي عقيدة كفرية إباحية في إحدى رسائله المعروفة بعنوان"الرد على الفاسق النصيري لعنه الله"  وفي وقت لاحق سيتحالف النصيريون مع الدروز في قتال الطلائع الأولى للاسماعيليين الحشاشين عند ظهورهم في المنطقة في وادي التيم. أما الدروز فيما يبدو فلم يتوسعوا في مناطق سكنهم باتجاه جبال الساحل الشمالية وبقيت كتلتهم الأساسية في جبل لبنان والمدن اللبنانية الساحلية في صيدا وصور وقد ذكرهم بنيامين التطيلي في رحلته نهاية القرن السادس الهجري أنهم في الساحل اللبناني ونسب لهم عقائد اباحية هي أقرب للنصرية مما يوحي ان الامر اختلط عليه
3.     بعد الانشقاق الدرزي عن الإسماعيلية بعد موت الحاكم بامر الله سنة 411هـ حدث انشقاق آخر في الإسماعيلية الحاكمة في مصر سنة 487هـ فقد مات الخليفة المستنصر حفيد الحاكم بأمر الله ونشأ صراع بين ولديه المستعلي ونزار على خلافته وانتهى النزاع بقتل نزار وانتصار المستعلي فانقسمت الإسماعيلية لقسمين: المستعلية (البهرة حاليًا) والنزارية (الاغاخانية حاليًا) وقد مال حسن الصباح صاحب قلعة الموت إلى نزار وكان هذا الميل هو سبب ظهور الجماعة الإسماعيلية (الحشاشون) في بلاد الشام ثم تركزها في المناطق الجبلية في سهل الغاب منافسة ومزاحمة للنصيرية في تلك المناطق.
4.     في زمن المستنصر الذي حدث بعد موته الانشقاق الإسماعيلي، ظهرت من شرق الخلافة قوة ناشئة هم السلاجقة بقيادة سلطانهم طغرلبك الذين زحفوا إلى بغداد بطلب من الخليفة العباسي فدخلوا بغداد وأنهوا التسلط الشيعي البويهي سنة 447هـ  ثم زحفوا نحو الشام في زمن السلطان الب أرسلان وخلال الفترة بين عامي 463-465هـ سيطروا على معظم بلاد الشام وأنهوا الوجود الإسماعيلي الفاطمي الذي عاد واستعاد بيت المقدس بعد سنوات ولكن عندما حدث هذا كانت طلائع الصليبيين قد وصلت بلاد الشام في الحملة الصليبية الأولى سنة 492هـ فوقعت بلاد الشام بين ضغط قوتين: السلاجقة من الشرق والصليبيين من الغرب فكان ذلك مما سرع عملية انحسار القوى الشيعية عمومًا وانسحاب اتباع الفرق الباطنية لاسيما النصيريين والجناح الإسماعيلي النزاري نحو المناطق الساحلية الجبلية، وكان الخطر الأكبر على اتباع هذه الفرق الباطنية من القوى السنية التي استعادت نفوذها وقيادتها لبلاد الشام في مواجهة الغزو الصليبي خلال الدولتين الزنكية والايوبية فالنهضة السنية التي رعاها نور الدين زنكي من ازالة مظاهر التشيع ونشر السنة  أدت إلى انهاء الدولة الفاطمية ومدها الشيعي ووضعت اتباع المذاهب الباطنية في حالة حصار ضمن وسط سني فلم يكن من خيار أمامها سوى التغير بما يناسب متطلبات العصر أو الرحيل فانسحبت التجمعات النصيرية بشكل متدرج من مناطق وجودها في الداخل نحو المعاقل الجبلية حيث لا تطالها يد السلطة الحاكمة فزال وجودهم من حمص وحماة ومدن الساحل اللبناني ومن حلب معقلهم الأساسي إلّا قليلا منهم آثر الإقامة متخفيًا بعقائده واستمر حتى العصر العثماني، وكذلك فعل من بقي من اتباع الإسماعيلية فحل النصيريون والاسماعيليون في المناطق الجبلية الساحلية متجاورين ومتحاربين غالبًا
في عام 487هـ عندما مات الخليفة الفاطمي المستنصر وظهر الانشقاق المستعلي-النزاري كان حسن الصباح قد سيطر على قلعة الموت وأسس جماعة الحشاشين الاسماعيلية المعروفة تاريخيًا، وبدافع موالاته لنزار أرسل بعد مقتله إلى الشام احد اتباعه ويدعى بهرام الذي مارس نشاطًا دعويًا في حلب ودمشق منذ سنة 519هـ  وتقرب من حاكم دمشق السلجوقي البوري الذي شعر بخطره بعد حين فأعطاه قلعة بانياس الجولان ليتخلص منه فاتخذها قاعدة للتوسع ونشر الدعوة ونحج بعد سنتين في دخول وادي التيم حيث اصطدم مع تحالف نصيري درزي انتهى بقتله وتبع ذلك عملية ملاحقة وقتل لاتباعه في دمشق وطردوا من بانياس فاتخذوا من مناطق الجبال الساحلية الشماليةملجأ تجمعوا فيه واشتروا عام 526هـ قلعة القدموس ثم قلعة الكهف قرب طرطوس وانطلاقًا منها سيطروا على قلعة مصياف سنة 534هـ التي أصبحت مركزا لهم ثم وسعوا نفوذهم وسيطروا على قلاع: الخوابي والعليقة وأبو قبيس والمرقب... وهي ما سميت بقلاع الدعوة على مقربة من مناطق انتشار النصيريين الذين خضعوا لضغط الاسماعيليين مع تسلم شيخ الجبل راشد الدين سنان قيادة الاسماعيليين في المنطقة سنة 557هـ  فكانت العلاقة متذبذبة حيث يذكر مصدر اسماعيلي أن النصيريين من أشد أعداء راشد الدين بينما يذكر أيضًا أن قسمًا منهم وقفوا مع الاسماعيليين في نزاعهم مع الصليبيين وبجميع الأحوال كانت العقلية النصيرية في ذلك الوقت غالبًا تساير الظروف فقد تخضع للاسماعيليين أو تنقلب عليهم إذا وجدت الفرصة وقد تصبح صليبية إذا استدعى الامر ذلك وجاء في تقويم الأزمنة  أن 60 الف نصيري اعتنقوا المسيحية ليتخلصوا من الاتاوات التي كانوا يدفعونها للصليبيين. ونفس الأمر يقال عن الاسماعيليين في علاقتهم مع محيطهم زمن شيخ الجبل فقد كانت علاقته تتبع المصلحة الآنية أكثر من العقيدة فقد يتحالف مع الصليبيين إذا ما جاء التهديد من صلاح الدين فقد حاولوا قتله أكثر من مرة، ثم تحالفوا معه عندما أوشك على اجتياح قلاعهم ونفذوا عدة عمليات اغتيال بالصليبيين لصالح صلاح الدين... بعد عام 567هـ. وبعد معركة حطين واستعادة القدس 582هـ مات شيخ الجبل سنة 588هـ وبدأ الحشاشون يخسرون قلاعهم  وضعف تأثيرهم في الاحداث لذا انكفأوا نحو المنطقة المنتشرين فيها ومارسوا مع من انضم من اكراد إلى المنطقة ضغطًا على النصيريين دفع النصيريين للاستنجاد بقوة من خارج المكان لحمايتهم فجاءهم المكزون السنجاري من جبل سنجار (سنجار ادلب غالبا وليس سنجار العراق كما يزعمون) بحملتين يبالغ النصيريون في أعدادها، ففي الحملة الأولى سنة 617هـ انهزم المكزون واتباعه أمام الاسماعيليين فانسحب وعاود الكرّة بعد ثلاث سنوات بحملة أكبر هزم فيها الاسماعيليين وقاتل الاكراد ولم ينس المكزون الإجهاز في طريقه على من بقي من الاسحاقية فجمعهم وناظرهم وأحرق كتبهم وأعدم زعماءهم، ثم نظم أمور العلويين وارتحل من المكان بنفسه تاركًا من جاء معه ليستوطن المكان مما زاد من نسبة النصيرية مقارنة بالاسماعيلية الذين سيصبحون مع الوقت أقل عددًا من النصيريين وموضع الهجوم عليهم واجتثاثهم حتى العصر الحديث
خلال مرحلة استيطان النصيريين  في جبال الساحل خلال القرون الوسطى ليس من الممكن تحديد أعدادهم ولكن يمكن تحديد أماكن تواجدهم فهم ظهروا في المناطق الداخلية أولا حول حلب ومنها انتشروا إلى سرمين وسلمية وحماة وحمص ومنها تمددوا نحو السفوح الشرقية للجبال الساحلية وفي المرتفعات حول طرطوس وصافيتا، أما الجبال شمال اللاذقية فلن يظهر لهم انتشار فيها حتى العصر المملوكي. أما المدن الساحلية الرئيسية: اللاذقية، جبلة، بانياس فقد بقيت حتى فترة قريبة ذات غالبية سكانية من المسلمين وبعض المسيحيين ولم تكن أماكن استيطان للعلويين إلّا في التاريخ المعاصر من خلال عملية تغيير التركيبة السكانية لهذه المدن في فترة ما بعد سيطرة العلويين على الحكم في سوريا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق