الخميس، 11 يوليو 2024

 




الغالية، الزندقة، الباطنية، التصوف، الغنوصية

مصطلحات تاريخية اسلامية يظنها الكثيرون انها متباينة ومختلفة عن بعضها، لكنها في مدلولاتها هي نفس الشيء والفرق الوحيد بينها هو المعنى اللغوي وان كل مصطلح خاص بعصر محدد من عصور الاسلام استخدمه اهل ذلك العصر للدلالة على اتباع تيار ديني خلط بين الفلسفة الاغريقية والدين

خلال العصر الهلنستي (333 – 30 ق م) الذي ابتدأ في الشرق بغزو الإسكندر المقدوني وانتهى مع الغزو الروماني وسقوط السلوقيين في سوريا والبطالمة في مصر، طبع الإغريق المنطقة بطابع حضاري توافقي شمل كل نواحي الحياة فزاوجوا بين الموروث الحضاري الإغريقي والموروث الحضاري الشرقي الذي نتج عنه ما عرف باسم (الهلنستية)  فنشأ على الصعيد الديني نتيجة ذلك تيار ديني مازج بين العقائد الشرقية القديمة وفلسفات الإغريق كفلسفة أرسطو وفيثاغورث وأفلاطون وأفلوطين، وقد عُرف هذا التيار في بعض مراحل تطوره باسم (الهرمسية) نسبة لشخصية أسطورية أو حقيقية اسمها هرمس (ادريس، أخنوخ)  ينسب اليه أتباع الهرمسية أصولهم الفكرية والاعتقادية. وقد ظهرت الهرمسية ابتداء في الإسكندرية لكنها انتشرت خارج مصر لاسيما فلسطين وأثرت في الحالة الدينية لليهود أولًا ثم للمسيحيين بعد ظهور المسيحية، ومن تلاقي الهرمسية مع اليهودية والمسيحية ظهر تيار آخر يطلق عليه الباحثون المعاصرون بشكل ارتجاعي اسم (الغنوصية) من الكلمة الإغريقية (Gnosis) التي تعني (المعرفة) لأن أتباعه انتهجوا طريق المعرفة (معرفة الله) على أسس فلسفية للوصول إلى الخلاص دينيًا بدل العمل بظاهر النصوص الدينية التي تنتهج طريق العمل والعبادة.  في حين اطلق عليهم المسيحيون في القرون الميلادية الأولى اسم جامع (الهراطقة) واتسع المصطلح ليشمل كل الفرق المسيحية التي عارضت الصيغة المسيحية لمجمع نيقية في بدايات القرن الرابع الميلادي فكان منهم: المرقيونية، والفالانتينية واتباع باسيليد وحديثا الكاثاريون....

 ورغم تعدد تيارات الغنوصية إلا أنها جميعها تشترك بأصول واحدة منها: ظهور الله بشرًا، مبدأ الثنوية، التناسخ، احتقار المرأة، عقيدة وحدة الوجود، الاعتقاد بالقيمة الرمزية للحروف والأرقام، علم الباطن....

خلال القرن الأول الميلادي وما تلاه تعرض الغنوصيون لحملات الملاحقة من قبل الكنيسة المسيحية والدولة البيزنطية التي اعتبرتهم كفار (هراطقة) فهرب الكثير منهم نحو بلاد فارس والعراق حيث لا سلطان لبيزنطة والكنيسة هناك، فأنشأوا تجمعات لهم في جنوب العراق وفي المدائن عاصمة الفرس كان لها أثرها على الديانة السائدة في فارس في ذلك الوقت وهي الزرادشتية (المجوسية) فنشأ فيها بفعل الغنوصيين تيار غنوصي زرادشتي تبلورت أصوله على يد ماني (ت267م) مؤسس الديانة المانوية التي زاوجت بين المسيحية الغنوصية والزرادشتية.

عندما حل المسلمون في العراق بعد القادسية (15هـ/636م) وهزيمة الفرس كان أول لقاء بين الإسلام والغنوصية، ورغم أن المسلمين أسسوا مدنًا خاصة لهم (الكوفة والبصرة) ولم يختلطوا مع السكان الأصليين ابتداءً، إلا أن موقع مدينتي البصرة والكوفة كان قريبًا بما يكفي من مراكز المانوية في المدائن والصابئة جنوب العراق ليختلط أولئك بالمسلمين على أطراف تلك المدن أو داخل المجتمع المسلم بعد أن أظهروا الإسلام وارتبطوا مع القبائل العربية برابطة الولاء التي نتج عنها ما يعرف في التاريخ الإسلامي باسم (الموالي) وهم الفرس الذين أسلموا وانتسبوا لإحدى القبائل العربية برابطة الولاء وليس الدم.

لقد كان العرب الذين سكنوا الكوفة والبصرة هم بغالبيتهم من المرتدين السابقين فرضت ظروف الحرب مع فارس على عمر بن الخطاب إعادة استخدامهم في الجيش في معركة القادسية بعد أن كانوا ممنوعين من ذلك منذ خلافة أبي بكر، لذلك كان مجتمع الكوفة والبصرة هو خليط من عرب الردة السابقين ومن الفرس الذين أسلموا أو ادعوا الإسلام ظاهرًا وبقوا على دين الأباء: الزرادشتية والمانوية، لذا لم يكن غريبًا أن يكون هذا الوسط هو الذي نشأت فيه الغنوصية الإسلامية الأولى التي كان عبد الله بن سبأ أول من جاهر بمعتقداتها عندما نادى بألوهية علي بن أبي طالب(ت40هـ) وقد اطلق على هؤلاء بداية اسم الغلاة والغالية ثم اتسعت دائرة الغلاة لاحقًا وشكلت تيارات ومذاهب عُرفت في القرن الثاني الهجري باسم جامع (الزندقة)  ومثلت وجهًا من الحركة الشعوبية في العصر العباسي ضد العرب والإسلام ثم صار يشار لها بعد القرن الرابع الهجري باسم الفرق الباطنية ان كانت شيعية الصبغة والصوفية ان كانت سنية الصبغة

إن كلمة الزندقة والزنادقة التي أطلقت على المجموعات الغنوصية الإسلامية مأخوذة من اسم كتاب المانوية المقدس (زندافستا) وقد تمثلت الزندقة والزنادقة في القرن الثاني الهجري في تيارات عديدة أهمها ثلاثة:

التيار الأول كان مانويًا بحتًا تظاهر بالإسلام وأبطن عقائد الأجداد الفرس وأشهر المنتسبين اليه بشار بن برد، وابن المقفع، وابن أبي العرجاء... وهؤلاء مثلوا حالات فردية لا تنظيم لهم على خلاف التيار الثاني الذي صبغ زندقته بصبغة التشيع وكانت له دعاوى سياسية ودينية ومطامع في الحكم والسلطة، واتباعه هم المنتسبون إلى الفرق الشيعية الغالية ومن كبارهم عبد الله بن معاوية، وجابر بن يزيد الجعفي وأبي الخطاب محمد بن أبي زينب... (النصف الأول من القرن 2هـ) وهؤلاء لوحقوا وحوربوا وبطش بهم، وفي كل ضربة كان يتلقاها هذا التيار من قبل السلطة الحاكمة في حربها على الزندقة كان اتباعه يتشظون وينقسمون إلى فرق، غالبها كان يندثر وبعضها القليل استمر ولا سيما اتباع الإسماعيلية والنصيرية (العلوية) الذين بقوا إلى يومنا.

التيار الثالث في الغنوصية الإسلامية كان تيارًا انتهج أسلوب الزهد في ظاهره وانعزل اتباعه عن الشؤون العامة ولم تكن لهم اهتمامات بالسياسة والحكم لذلك نما هذا التيار بعيدًا عن الضوء ولم يلاق ما لاقاه الزنادقة المانويين والشيعة لا سيما أن ولاية أهل البيت لم تكن جزء من اعتقاده مثل الزنادقة الشيعة، لذلك حسب على أهل السُّنَّة على عكس التيار الثاني الذي حسب على الشيعة... أضف إلى أن الزندقة  المحسوبة على أهل السُّنَّة لم تظهر إلا في وقت متأخر مقارنة بالزندقة الشيعية فأول من جاهر بعقائد الغنوصيين المتمثلة بعقيدة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود كان أبو يزيد البسطامي (منتصف القرن 3هـ) في حين أن أول حركات الزندقة الشيعية ظهرت منذ القرن الأول لذلك سلط عليها الضوء وكتب عنها أكثر مما سلط وكتب عن حركات الزندقة السُّنيَّة. وان كان الحلاج هو اشهر شخصية صوفية قتل على زندقته مطلع القرن الرابع الهجري فان ضعف الخلافة بعد هذا التاريخ وسيطرة الاعاجم عليها وفر البيئة المناسبة لنمو هذا التيار وانتشاره وجاء السلاجقة بعدها فكانوا اكبر عونا لانتشار التصوف بحكم انهم كانوا على عقائد الصوفية ولم يعرف بعد الحلاج ان أحدا قتل على الزندقة (التصوف) الا السهروردي الذي قتله صلاح الدين الايوبي.

أطلق على الغنوصية المحسوبة على أهل السُّنَّة اسم (الصوفية والتصوف) وهو اسم اختلف الصوفية أنفسهم في معناه وقد يكون المصطلح جاء من (الصفا) وهو مصطلح مشترك بين كل الفرق الغنوصية الإسلامية فعند الإسماعيلية وجد إخوان الصفا، وعند النصيرية يوجد عالم الصفا (الجنة) وعند الصوفية نهاية طريق السالك في الطريقة  هو الوصول إلى الصفا (عودة الفرع: الإنسان، إلى الأصل الذي جاء منه: الله)

يقسم الدارسون التصوف إلى أقسام بحسب تطوره، فيقولون: بدأت حركة التصوف على شكل نزعة للزهد نشأت في البصرة في القرن الثاني الهجري كان روادها الحسن البصري وإبراهيم بن الادهم والسري السقطي... ثم تطورت وانشقت إلى تصوف إسلامي يعتمد الكتاب والسُّنَّة كتصوف ابن الادهم وأبي حامد الغزالي.... وتصوف يعتمد الفلسفة الإغريقية كتصوف البسطامي والحلاج والسهروردي وابن عربي... ولكن ما يبدو في الواقع العملي اليوم أن لا فرق بين من يدعي التصوف الإسلامي ومن يدعي التصوف الفلسفي فكلاهما يقتبس ويعتقد بما اعتقده أصحاب التصوف الفلسفي من عقائد في وحدة الوجود والحقيقة المحمدية ووحدة الأديان ... وهي أصول مشتركة عند اتباع العقائد الباطنية والصوفية كلها مما يجعل من تقسيم التصوف إلى إسلامي وفلسفي ضرب من التنظير المخالف للواقع، فالتصوف كله فلسفي يمازج بين الإسلام والفلسفة الإغريقية لا سيما الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة ويتطابق في أصوله مع أصول الغنوصية الأولى التي ظهرت في العصر الهلنستي وبنت معتقداتها على مزج الفلسفة الإغريقية بأديان الشرق وتابعت تطورها بالاندساس في كل دين والتلون بلونه دون ان تتنازل عن مبادئها بل اتخذت من الدين قشرة رقيقة أخفت بها ما تعتقده حقيقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق