الشيعة والعلويون، تكفير مذهبي والتقاء سياسي

2-مرحلة فك العزلة:

لقرون طويلة ومنذ ان انعزل العلويون في جبال الساحل السوري منذ القرن الخامس الهجري فانه لم يعرف لهم اي اهمية على الصعيد المحلي او الاقليمي ولم يذكروا في التاريخ الا نادرا بصفتهم مجموعات قد تمتهن السلب والنهب للمناطق المجاورة في مدن اللاذقية وجبلة في فترات ضعف السلطة المركزية.... لكن هذا الحال بدأ يتغير اواخر سني الدولة العثمانية حيث اولى الغرب الاقليات الطائفية والعرقية في الشرق اهتمامه
وظهر اهتمام الفرنسيين بالنصيريين واضحا قبل احتلالهم سوريا، وبعد الاحتلال عمل الفرنسيون على إبراز الشخصية العلوية وقطع صلتها بماضيها في أذهان المعاصرين من غير العلويين فاستحدثت لهم اسم (العلويين) لربطهم بشخص علي بن أبي طالب الذي له الاحترام والتقدير عند السنة والشيعة ليكون الاسم بديلًا عن اسم (النصيريين) المشتق من محمد بن نصير المكَفَّر عند الشيعة والسنة، ثم أوجدت لهم دويلة في منطقة الساحل وأطلقت عليها اسم (دولة العلويين) ثم دفعت أحد موظفيها العلويين -محمد غالب الطويل- لينتج أول كتاب عن تاريخ النصيريين بالاسم الجديد وهو (تاريخ العلويين)، أما الجهد الأكبر والأبعد تأثيرًا فقد قام به أحد الشيوخ النصيريين وهو سليمان الأحمد الذي وقع على كاهله عبء التسويق للعلويين في الأوساط الشيعية على أنهم شيعة اثني عشريين منذ مطلع القرن العشرين لذا نستطيع أن نقرر أن سليمان الأحمد هو رائد التحالف الشيعي-العلوي الذي وصل إلى ما وصل إليه اليوم.
وسليمان الأحمد (1866-1942م) من قرية الجبيلية (قضاء جبلة - محافظة اللاذقية) عاش في اللاذقية وزار كيليكيا، وبيروت صيدا والنجف وأقام في بعضها. درس الفقه الجعفري خاصة، والنحو، واشتغل بالتعليم في قرية ديفة والسلاطة. وعُين رئيسًا لمحكمة الاستئناف في عهد الملك فيصل، ثم أصبح مع حزب الكتلة ،وانتُخب عضوًا في المجمع العلمي العربي في دمشق. أنجب أربعة من الأولاد: محمد (بدوي الجبل)، وأحمد، وعلي، وفاطمة
لم يكن سليمان الأحمد مجرد سياسي وأديب وفقيه جعفري ... بل كان عند قومه أحد أعظم شيوخ الدين العلويين في العصر الحديث ويطلقون عليه لقب "الشيخ الأمجد" وكان هو أول من بدأ في إنشاء العلاقات مع الشيعة والتسويق للعلويين بين الشيعة على أنهم اثنا عشريين وليسوا طائفة باطنية لذلك درس الفقه الجعفري وانشأ علاقات وثيقة مع معاصريه من مراجع الشيعة يدل عليها تلك القاءات والزيارات والتفاهمات التي حدثت بينه وبينهم، وقد ذكر عبد الرحمن الخير (1903-1982) جانبًا منها فقال:
"في عام 1332/1914م قام العلامتان سليمان الأحمد وإبراهيم عبد اللطيف مرهج بزيارة إخوانهما من علماء المسلمين الجعفريين في لبنان ودامت المحادثات أيام عدة أسفرت عن تعارف مذهبي وتفاهم أخوي ومودة صادقة"
لقد قام نشاط سليمان الأحمد على التقية فكان يظهر غير ما يبطن، فهو نصيري العقيدة بلا شك لكنه حاول استغلال الظروف لمصلحة قومه ليغير مواقف أهل السنة والشيعة منهم ويؤمن لهم قبولًا في تلك الأوساط على طريق الوصول إلى حكم سوريا الذي أصبح واقعا فيما بعد، ولم يكن حافظ الأسد هو أول من أوجد الحلف الإستراتيجي بين العلويين والشيعة بل كان الأسد من منجزات هذا التحالف الذي عمل عليه سليمان الأحمد، واعتمدته فرنسا منذ احتلال سوريا وإنشاء الدولة العلوية. ومما يؤكد أن سليمان الأحمد كان نصيري العقيدة - محكومًا بعقائد الأجداد والأباء- وأحد شيوخها ولم يكن ذلك الشيعي-الوطني كما أشاعوا عنه هو:
1. إن كان سليمان الأحمد شيعيًا جعفريًا فلماذا لم يبذل جهده في تحويل بني قومه إلى الجعفرية على وجه الحقيقة لا الدعاية والإعلان ؟ فلو كان سليمان الأحمد مقتنعًا بما كان يروج له لعمل عليه و لرأينا ثماره واقعًا في حين أن الواقع يقول إن العلويين قبل سليمان الأحمد هم نفسهم بعد سليمان الأحمد.
2. في مراسلات جرت بين محمد كرد علي و الشيخ سليمان الأحمد، استفسر كرد علي من سليمان الأحمد عن عقائد النصيريين و أحوالهم. فأرسل له سليمان الأحمد رسالة فيهاالجواب ،قال فيها:
«لا فرق بينهم وبين الإمامية إلا ما أوجبته السياسة والبيئة وعادات العشائر التي توارثها سكان الشام... إنما لهم طريقة كالنقشبندية والرفاعية وغيرهما من طرق الصوفية بالنسبة إلى أهل السنة. وهذا مصدر التقولات الباطلة عليهم... "
والحقيقة أن سليمان الأحمد استعمل التقية في الرد وانسل من معتقده وبرَّأ نفسه وقومه من العقيدة النصيرية بينما في مراسلات سليمان الأحمد مع معاصره الشيخ النصيري صالح ناصر الحكيم فقد أقر بعقيدته النصيرية وتأليهه لعلي بن أبي طالب، ففي إحدى رسائله لصالح الحكيم قال له: "إن اصل عقيدة هذا المذهب و قاعدة أمره أن الصورة المرئية هي الغاية الكلية الظاهرة بالسبع قباب من هابيل إلى أمير المؤمنين هي هي الذات المعبود..." ثم يختم سليمان الأحمد رسالته لصالح الحكيم بأبيات من الشعر يختصر فيها معتقده كله بقوله:
أشهد أن لا إله إلا
علي الأنزع البطين
و لا حجاب لديه إلا
محمد الصادق الأمين
و لا سبيل إليه إلا
سلمان باب الهدى المبين
وإضافة لما سبق فإن سليمان الأحمد هو صاحب الشرح الكبير لديوان الشاعر النصيري الكبير الحسن بن مكزون السنجاري، وكلا الديوان والشرح يدوران في مواضيعهما حول العقيدة النصيرية وأصولها وجزئياتها.
3. ذكروا أن سليمان الأحمد كان من المعادين للاستعمار الفرنسي و أعوانه و كان من المؤيدين للكتلة الوطنية. وإحدى الحقائق التاريخية هي أن العريضة التي رفعها أعيان الطائفة العلوية لحكومة اليهودي ليون بلوم و التي تطالب حكومة فرنسا بعدم الانسحاب من سوريا و تتباكى على يهود فلسطين ...كان من الموقعين عليها -إلى جانب سليمان الأسد جد حافظ- أحد أبناء سليمان الأحمد الشاعر المعروف بدوي الجبل باسم محمد سليمان الأحمد ،و لا ندري كيف يكون سليمان الأحمد معاديًا للفرنسيين و لإعوانهم و في نفس الوقت يكون ابنه من الغارقين في هذه العمالة للمستعمر و المطالبين ببقائه ،إلا إذا كان يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره علما ان بدوي الجبل له قصيدة يرحب بها بغورو عندما دخل الاخير دمشق
في الوقت الذي كان سليمان الأحمد يعمل على التقارب العلوي-الشيعي، ظهر في الأوساط الشيعية العربية شخصيتان كانتا سلفًا على علاقة وتواصل مع سليمان الأحمد، هما: محسن الأمين العاملي الذي هاجر من جبل عامل في لبنان ليقيم في دمشق في حي اليهود حيث الأقلية الشيعية هناك ليعمل على جمعها وتوعيتها، والشخصية الثانية هي عبد الحسين شرف الدين، الذي هاجر من العراق إلى جبل عامل في لبنان في نفس وقت هجرة الأمين ليعمل على جمع الشيعة في لبنان وتوعيتهم هناك، وبشكل أكيد كان هناك مراسلات بين الأطراف الثلاثة تناولت أمورًا شخصية و علمية
وإن كان سليمان الأحمد هو رائد النهضة العلوية الحديثة فإن محسن الأمين هو رائد البعث الشيعي في سوريا، ولا يمكن الكلام عن تاريخ الشيعة في لبنان ونهضتهم المعاصرة دون الإقرار بأن عبد الحسين شرف الدين هو باعثها. ولم يكن ظهور هذا الثلاثي: الأحمد-الأمين-شرف الدين في وقت واحد وقيام الصلات فيما بينهم محض صدفة أبدًا
وقد مات الثلاثي: الأحمد-الأمين-شرف الدين في فترات متقاربة
عندما مات سليمان الأحمد سنة 1942م، مات وقد أوجد التواصل بين النصيرية والشيعة على مستوى النخب الفكرية وأقنع معاصريه من مراجع الشيعة كالأمين وشرف الدين ومحمد حسين كاشف الغطاء أنه وقومه جعفريون اثنا عشريون، وحصل من عبد الحسين شرف الدين على إجازة بالرواية عنه.
أما جهود محسن الأمين الذي توفي سنة 1952م فقد أثمرت في ربط أكبر أقلية دينية في سوريا (العلويون) مع أصغر أقلية دينية (الشيعة) ونتج عن ذلك أن أصبح للشيعة وزير في حكومة البعث الطائفي عام 1966 . وفيما يخص النصيرية فقد كان أول من برئ ابن نصير والخصيبي والنصيرية من تهم الغلو التي وصمتهم بها كل المصادر الشيعية، وألحقهم بالشيعة في موسوعته المعروفة باسم "أعيان الشيعة".
ولاحقًا مع مطلع السبعينيات سيظهر رجل دين شيعي عراقي هو حسن مهدي الشيرازي سينتقل من العراق إلى سوريا ليتابع ما بدأه الأمين حيث سيحيي مزار السيدة زينب وينشيء أول حوزة شيعية (الحوزة الزينبية) في سوريا


أما عبد الحسين شرف الدين فقد بذر في لبنان بذور الصحوة الشيعية وعندما حانت وفاته سنة 1957هـ أوصى أن يخلفه إيراني هو موسى الصدر الذي استدعي من إيران على عجل وأعطي الجنسية اللبنانية بمرسوم رئاسي بشكل مريب خلافًا للأصول المتبعة في لبنان من حظر التجنيس إلا على الموارنة

تعليقات