نبذة عن نشأة التصوف وعلاقته بالفرق الباطنية

نبذة عن نشأة التصوف وعلاقته بالفرق الباطنية:
خلال العصر الهلنستي (333 – 30 ق م) الذي ابتدأ في الشرق بغزو الإسكندر المقدوني وانتهى مع الغزو الروماني وسقوط السلوقيين في سوريا والبطالمة في مصر، فقد طبع الإغريق المنطقة بطابع حضاري توافقي شمل كل نواحي الحياة فزاوجوا بين الموروث الحضاري الإغريقي والموروث الحضاري الشرقي فنشأ على الصعيد الديني نتيجة ذلك تيار ديني مازج بين العقائد الشرقية القديمة وعقائد الإغريق وفلسفات أرسطو وفيثاغورث وأفلاطون وأفلوطين، وقد عُرف هذا التيار باسم (الهرمسية) نسبة لشخصية أسطورية أو حقيقية اسمها هرمس ينسب اليه أتباع الهرمسية أصولهم الفكرية والاعتقادية. وقد ظهرت الهرمسية ابتداء في الإسكندرية لكنها انتشرت خارج مصر لاسيما فلسطين وأثرت في الحالة الدينية لليهود أولًا ثم للمسيحيين بعد ظهور المسيحية، ومن تلاقي الهرمسية مع اليهودية والمسيحية ظهر تيار آخر هجين يطلق عليه الباحثون المعاصرون اسم (الغنوصية) وهي كلمة إغريقية الأصل تعني (المعرفة) لأن أتباعه انتهجوا طريق المعرفة أو العرفان (معرفة الله) على اسس فلسفية للوصول إلى الخلاص دينيًا بدل العمل بظاهر النصوص الدينية التي تنتهج طريق العمل والعبادة والأوامر والطاعات
خلال القرن الأول الميلادي وما تلاه تعرض الغتوصيون لحملات الملاحقة والمطاردة من قبل الكنيسة المسيحية والدولة البيزنطية التي اعتبرتهم زنادقة كفار فهرب الكثير منهم نحو بلاد فارس والعراق حيث لا سلطان لبيزنطة والكنيسة هناك فانشأوا تجمعات لهم في جنوب العراق والمدائن عاصمة الفرس كان لها اثرها على الديانة السائدة في فارس في ذلك الوقت وهي الزرادشتية فنشأ فيها بفعل الغنوصيين تيار غنوصي زرادشتي تبلورت أفكاره واصوله على يد ماني مؤسس الديانة المانوية التي زاوجت بين المسيحية الغنوصية والزرادشتية.
عندما حل المسلمون في العراق بعد القادسية وهزيمة الفرس كان اول لقاء بين الإسلام والمانوية، ورغم ان المسلمين اسسوا مدنا خاصة لهم ولم يتخالطوا مع السكان الأصليين ابتداء الا ان موقع مدينتي البصرة والكوفة كان قريبا بما يكفي من مراكز المانوية والصابئة ليختلط أولئك بالمسلمين على اطراف تلك المدن او داخل المجتمع المسلم بعد ان اظهروا الإسلام وارتبطوا مع القبائل العربية برابطة الولاء التي نتج عنها ما يعرف في التاريخ الإسلامي باسم الموالي وهم الفرس الذين اسلموا وانتسبوا لاحدى القبائل العربية برابطة الولاء وليس الدم.
لقد كان العرب الذين سكنوا الكوفة والبصرة هم بغالبيتهم من المرتدين السابقين فرضت ظروف الحرب مع فارس على عمر بن الخطاب إعادة استخدامهم في الجيش بعد ان كانوا ممنوعين من ذلك لذلك كان مجتمع الكوفة والبصرة هو خليط من عرب الردة السابقين ومن الفرس الذين اسلموا او ادعوا الإسلام ظاهرا وبقوا على دين الإباء: الزرادشتية والمانوية لذا لم يكن غريبا ان يكون هذا الوسط هو الذي نشأت فيه الغنوصية الإسلامية الأولى التي كان عبد الله بن سبأ اول من جاهر بمعتقداتها عندما نادى بألوهية علي بن ابي طالب ثم اتسعت لاحقا وشكلت تيارات ومذاهب عرفت في القرن الثاني الهجري باسم (الزنادقة) ثم صار يشار لها في القرن الرابع الهجري باسم الفرق الباطنية
ان كلمة الزندقة مأخوذة من اسم كتاب المانوية المقدس (زندافستا) وهو الاسم الذي اطلق على المجموعات الغنوصية الإسلامية الذين اظهروا الإسلام وابطنوا المانوية ومن هؤلاء نشأ تياران:
تيار صبغ زندقته بصبغة التشيع وهو الذي لوحق وتم البطش به ابتداء من خلافة أبي جعفر المنصور وابنه المهدي بسبب دعاويه السياسية والدينية ومطامعه في الحكم والسلطة فقتل من اتباعه عبد الله بن معاوية وابن المقفع وبشار بن برد وعبد الكريم بن ابي العرجاء وأبو الخطاب محمد بن ابي زينب ... وفي كل ضربة يتلقاها من قبل السلطة الحاكمة كان اتباعه يتشظون وينقسمون الى فرق غالبها كان يندثر وبعضها القليل استمر ولا سيما اتباع الإسماعيلية والنصيرية الذين بقوا الى يومنا.
التيار الثاني في الغنوصية الإسلامية كان تيارا انتهج أسلوب الزهد في ظاهره وانعزل اتباعه عن الشؤون العامة ولم تكن لهم اهتمامات بالسياسة والحكم -باستثناء الحلاج واتباعه- لذلك نما هذا التيار بعيدا عن الضوء ولم يلاقي ما لاقه الزنادقة الشيعة لا سيما ان ولاية اهل البيت لم تكن جزء من اعتقاده مثل الزنادقة الشيعة، لذلك حسب على اهل السنة على عكس التيار الأول الذي حسب على الشيعة... اضف الى ان الزندقة الصوفية المحسوبة على اهل السنة لم تظهر الا في وقت متأخر مقارنة بالزتدقة الشيعة فاول من جاهر بزندقته القائمة على عقيدة الحلول والاتحاد كان أبو يزيد البسطامي في أواسط القرن الثالث الهجري في حين ان اول حركات الزندقة الشيعية ظهرت منذ القرن الأول لذلك سلط عليها الضوء وكتب عنها اكثر مما سلط وكتب حركات الزندقة الصوفية
اطلق على الغنوصية المحسوبة على اهل السنة اسم (الصوفية) وهو اسم اختلف الصوفية انفسهم في معناه فنسبه البعض الى الصوف لانهم كانوا يلبسون الصوف بدافع الزهد والتقشف. بينما قال اخرون مشتق من اسم اهل الصفة وهم جماعة من الصحابة كانوا زهادا في الحياة. ولكن قد يكون المصطلح جاء من كلمة (الصفا) وهو مصطلح مشترك بين كل الفرق الباطنية فعند الإسماعيلية وجد اخوان الصفا، وعند النصيرية يوجد عالم الصفا (الجنة) والصوفية في نهاية طريق السالك الهدف هو الوصول الى الصفا ...
يقسم الدارسون للتصوف هذه النحلة الى اقسام بحسب تطورها، فيقولون بدأت حركة التصوف على شكل نزعة للزهد نشأت في البصرة في القرن الثاني الهجري كان روادها الحسن البصري وإبراهيم بن الادهم والسري السقطي... ثم تطورت وانشقت الى تصوف إسلامي يعتمد الكتاب والسنة –بزعمهم- كتصوف ابي حامد الغزالي. وتصوف يعتمد الفلسفة الاغريقية كتصوف البسطامي والحلاج والسهروردي وابن عربي... ولكن ما يبدو في الواقع العملي اليوم ان لا فرق بين من يدعي التصوف الإسلامي ومن يدعي التصوف الفلسفي فكلاهما يقتبس ويعتقد بما اعتقده أصحاب التصوف الفلسفي من عقائد في وحدة الوجود والحقيقة المحمدية ووحدة الأديان ... وهي أصول مشتركة عند اتباع العقائد الباطنية كلها مما يجعل من تقسيم التصوف الى إسلامي وفلسفي هو ضرب من التنظير المخالف للواقع، فالتصوف كله فلسفي إضافة الى ان التصوف الذي يسمونه إسلامي –ان صح وجوده- هو بدعة ما انزل الله بها من سلطان لا في كتاب ولا سنة بل هو وافد على هذا الدين.

تعليقات

إرسال تعليق